خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني بمعهد بروكنغز في واشنطن
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني بمعهد بروكنغز في واشنطن
سعادة السفير انديك،
أصدقائي،
أشكركم للترحيب الحار، سعادة السفير أشكركم للتقديم الكريم، انني ممتن لاتاحة الفرصة لي لاشرككم جميعا في أفكاري ومخاوفي وطموحاتي في آخر يوم من زيارتي الحالية للولايات المتحدة الامريكية.
أتيت إلى واشنطن حاملا رسالة ملحة حول الحاجة لان تقود الولايات المتحدة السلام في الشرق الاوسط. لم يحدث منذ عام 1948 قط أن برزت حاجة أعظم لتدخل خارجي يحل المشكلة الفلسطينية الاسرائيلية والصراع العربي الاسرائيلي. ولم يحدث قط أن أدركت دول المنطقة هذا الحد من الثمن الباهظ لهذه الازمة وأن كانت أكثر استعدادا لقبول الحل، وبالتأكيد لم يحدث قط إجماعا عالميا واسعا كهذا حول دور أمريكا القيادي.
أتيت أيضا لاتحدث بصيغة عملية حول إعادة عملية السلام إلى مسارها لان المسألة لم تعد أننا نواجه عقبة ما، أخرجتنا عن الطريق وما علينا سوى العودة له ومن ثم نغلق أبواب السيارة والعودة للسير مجددا. أعتقد أنني لا أبالغ إذا قلت أننا نواجه حادث تدمير قطار تسبب في دمار هائل وفقدان أرواح كثيرة وقد فقدنا القدرة الان على إعادة الاليات القديمة على مسارات التفاوض القديمة والتوقع بالتالي تحقيق تقدم. نحن بحاجة إلى محرك جديد للتغير، واقترح هنا مسارات جديدة أيضا، لذا أود أن أقول كلمة حول أين كنا.
لن أراجع عملية السلام كلها، فمعهد بروكنغز يعد كتابا مميزا من 425 صفحة يغطي الموضوع برمته. أود التركيز على نقطة أكثر تحديدا عن المرة الاخيرة التي بدأ فيها تغير جذري على عملية السلام. كان ذلك عام 1991 عندما عقد مؤتمر مدريد للسلام الذي بدأ كما تذكرون بدعوة مشتركة من الولايات المتحدة والسوفييت بعد مشاروات مع الدول العربية والفلسطينيين واسرائيل. ثلاثة تطورات مهدت هذا الطريق أمام هذا الاختراق، اذ انتهت الحرب الباردة بتركزها العالمي ومنحت حرب الخليج المنتهية لتوها مفهوما اقليميا جديدا لمواجهة النزاع الفلسطيني الاسرائيلي وتنامى اجماعا عالميا حول الاستقلال الفلسطيني، اجماع يمكنه من منح عملية السلام في مدريد قاعدة ثابتة بموجب مرجعية تستند على الشرعية الدولية وقراري الا مم المتحدة 242 و338.
كثيرون منكم يعرفون النتائج، فقد نجحت المسارات التي انبثقت عن مدريد في تأسيس السلطة الوطنية في فلسطين وتم وضع معاهدة لسلام بين الاردن واسرائيل وتم الاقتراب من تفاهم حقيقي على الجبهات السورية واللبنانية. أما مسار المفاوضات المتعددة الاطراف في مدريد فقد شق مسارا جديدا في معالجة القضايا المتعلقة باستدامة السلام في المنطقة وغطت التنمية الاقتصادية والحد من التسلح والامن الاقليمي ومصادر المياة والبيئة واللاجئين.
وبالطبع لم يغتر أحد بالظن بأن الحلول سهلة، لكن الوعد كان هناك بسلام شامل وعادل ينهي الصراع للمرة الاخيرة. ليس هذا بالمقام المناسب لتوجيه اللوم على فشلنا الجماعي في اثمار هذه العملية، فقد كان الكثيرون صادقين في سعيهم لاعادة العملية الصعبة إلى مسارها، وبذل كثيرون كل الجهد الممكن لانجاحها.
لقد عشت تلك الفترة أراقب المغفور له والدي يتحدى الصعاب ليحقق الحلم، وشهدت التغير الذي بدا أحيانا شبه مستحيل. وأعتقد أن كل ما هو ايجابي اليوم يأتي نتيجة لذلك الانجاز. ما علينا ان نفعله اليوم هو استقاء العبر من تلك التجربة. العملية إنهارت تماما ليس لان مرجعيتها كانت غامضة وليس لعيب أو قلة إخلاص ولا بسببب جموح الامال، فالعملية ارتطمت بجدار عندما فشلت في كسب المصداقية والثقة.
دعونا نتذكر كيف أن عملية سلام التسعينات لم تبين بوضوح نهاية المسار ولا كيفية التوصل لتلك المرحلة. الوعد كان دائما أن قضايا المرحلة النهائية ستناقش فيما بعد. تأخير حل القضايا الشائكة حتى يتم بناء المزيد من الثقة بين الاطراف، النتيجة لكثير من المشاركين كانت دائما معاكسة. لم تبنى الثقة، لان العملية لم يبدو أنها تمنح الامل بحل حقيقي. بالطبع شعر عديدون أن الثقة أخذت تتأكل، وبدأ ينظر لعملية السلام كوسيلة عرقلة أخرى لمنع إحقاق العدل.
عندما جرت محاولة التطرق للحلول الدائمة في كامب ديفيد عام 2000 كانت الفجوة بين العملية والواقع هائلة، ويعادل هذا أهمية،ربما، أن قوانين اللعبة لم تتم مأسستها طالما ان النهاية كانت ضبابية وبقيت العملية أسيرة لأهواء ورغبات القادة الذين قد يختارون متابعة السلام او قد يختارون الاعراض عنه. في هذه البيئة كان يمكن للسلام أن يكون، بل بالتأكيد كان معرضا للتهديد الدائم بحكم التصرفات وردود الفعل والاحداث على الارض التي لم يكن بالامكان السيطرة عليها دائما من قبل المتضررين بها أنفسهم.
كل ذلك تجمع ليقلل من شأن العملية التي تم وضع تفاصيلها في خريف عام 1991، القصف والمتسوطنات والابعادات وتصرفات اخرى تكشف فشل الاطراف في قبول كل منهم للاخر كشركاء وجيران. وبات الامر مجرد مرور للزمن قبل أن يزاداد تصعيد العنف والكره وتحويل الجهد في معسكري السلام في الجانبين لكسب دعم شعبي مطلوب لاستمرارية العملية. وبرزت مكانة المفاهيم المضللة ثانية على الجانبين بأن التفجيرات الانتحارية مثمرة على طريق الحرية، أو الفكرة الخاطئة أيضا بأن الدبابات يمكنها إخضاع صرخة شرعية لشعب يسعى للاستقلال.
أصدقائي،
إن النموذج التفاوضي المتزايد قد استهلك، بل وأكثر من هذا يجب أن يرى الناس النتائج، الامن الحقيقي والاستقلال الحيوي ومستقبل من الامل. سلام يجد صدى لدى الفلسطينيين والاسرائيليين باستقلال عن ارادة القادة سلام يركز مجددا في حينه على النتائج العملية.
قد يجادل المشككون أن هذا غير ممكن نظرا للقسوة التي بدأت تبرز في الرأي العام لكلى الطرفين ولهؤلاء أقول أنه اذا كانت أزمة اليوم قد عمقت الخلافات إلا أنها جعلت القضايا أوضح من أي وقت مضى. وبالتأكيد بينما يستمر اندلاع النزاع هناك عملية ذاتية داخلية في أذهان الناس في كلا الطرفين للحلول المقترحة. لقد انهك الشعبان وهما على استعداد للسلام سلام يتيح للام الاسرائيلية أن ترسل طفلها إلى المدرسة دون خوف، وسلام يتيح للمرأة الفلسطينية أن يرى وليدها النور حيا في المستشفى وليس على نقطة تفتيش واحتجاز اسرائيلية.
لانهاء العنف الحالي يجب أن يأخذ حل النزاع مكان إدارة النزاع، وهذا يتطلب أن نركز بحدة على الاهداف النهائية ومبادىء السلام. يجب أن نتجه مباشرة للجوائز النهائية. أما الالية قيد التبني فيجب أن تكون باعادة طرح المفاوضات حول القضايا النهائية. وما يفوق هذا أهمية انهاء التوصل إليها ضمن اطار زمني معقول، وهذا يعني ترجمة الرؤية التي صيغت في مدريد ولوسفيل وواشنطن وبيروت وتحويلها إلى خط زمني مفصل وخطة عمل تعيد إحياء الامل.
اعتقد أن قاعدة قوية لمثل هذا التصور قد تمت صياغتها في القمة العربية غير المسبوقة الاخيرة التي صاغت الدول العربية فيها اهتمامات اسرائيل وفي الوقت نفسه لبت آمال الفلسطينيين في معاهدة سلام جماعية مع جميع الدول العربية تتمكن فيها اسرائيل من الحصول على الضمانات التي تريدها، وتحصل الشخصية اليهودية والامن والشرعية والاعتراف الدولي والقبول العربي والمستقبل الآمن لاسرائيل على حلول ايجابية. في الوقت نفسه تحصل الدول العربية على مطالبها الجوهرية وهي انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية كلها وضمان الاستقلال والحرية والكرامة والمساواة والامن للفلسطينيين، وابرام حل متفق عليه لقضية اللاجئين.
أعتقد ان تسوية عادلة كهذه يمكنها أن تحقق الديمومة والتي سيتأكد الفلسطينيون والاسرائيليون بموجبها من ديمومة كيانهم وامنهم ووحدة اراضيهم، وستعالج قضية القدس بأن تصبح مدينة مشتركة ومفتوحة لجميع الديانات. سيكون هناك حل متفق عليه لمشكلة اللاجئين، ويكون عادلا للفلسطينيين ولا يهدد في الوقت ذاته سيادة دولة اسرائيل.
أصدقائي،
قبل سبع سنوات عقد المغفور له والدي معاهدة سلام مع اسرائيل وضعت الاسس لعلاقت طبيعية بين البلدين. والان وللمرة الاولى خاطب العرب مجتمعين المواطنين الاسرائيليين كجيران يستحقون العيش بكرامة وأمن وسلام. قلنا للاسرائيليين في القمة العربية بلغة صريحة وواضحة " نرحب بكم في جوارنا، انظروا للعرض العربي للسلام بجدية من أجل الحاضر والمستقبل لشعوبنا". اعتقد ان اسرائيليين كثيرين يصغون، وعلى الرغم من الوضع الصعب يعتقد أكثر من نصف الشعب الاسرائيلي أن إنهاس الاحتلال وتفكيك المستوطنات سيساهم في ارساء دعائم السلام.
ففي استطلاع للرأي نشر الاسبوع الماضي وجد أن 63 بالمائة من الاسرائيليين يعتقدون أن مفاوضات للسلام باتت ضروية لحل مشكلة الارهاب وان 56 بالمائة يؤيدون وجود قوة دولية بقيادة الولايات المتحدة في الاراضي الفلسطينية. لكن النجاح يتطلب أكثر من هذا، اذ يتطلب بالتأكيد قيادة وسياسة أمريكية تعيد سحب المنطقة عن حافة الهاوية. والولايات المتحدة وحدها تمتلك السلطة السياسية والاخلاقية الضرورية للجمع بين الشعوب وبالتالي تحمل المجازفة التي يتطلبها عقد السلام.
لقد بات الدور الامريكي النشط في الشرق الاوسط أمرا لا يمكن الاستغناء عنه ليس فقط من أجل توجيه الفلسطينيين والاسرائيليين لكيفية الخروج من آتون النزاع فحسب، بل ايضا من أجل حماية مصالحكم الوطنية والحيوية ومصالح حلفائكم من المعتدلين. حلفاء وقفوا خلفكم في منطقتنا كالمتراس وفي ارجاء العالم كله. وتبقى الحقيقة السائدة بأنه في ضوء الاوضاع الحالية لم يعد بمقدور الفلسطينيين او الاسرائيليين اتخاذ الخطوات اللازمة للتوصل إلى تسوية نهائية معقولة. المجتمع الدولي وحده وتحت قيادة امريكية قوية يمكنه الاخذ بيد الاطراف لتجاوز النزاع.
في الاسبوع الماضي اتيت لحث الولايات المتحدة لانتهاز هذه اللحظة التاريخية لارساء دعائم تحالف سلام جديد في الشرق الاوسط يضم تحت مظلته تحالف تقوده الولايات المتحدة ويجمع الاوروبيين والعرب ودولا أخرى توفر الدعم المطلوب الامني والاقتصادي والسياسي للفلسطينيين والاسرائيليين.
يجب ان تبلغ الاطراف بما لا يدع مجالا للشك ان التفجيرات الانتحارية لم تكافىء وأن الاحتلال لن يكافىء أيضا بل والاهم ان تحالف السلام سيمارس نفوذه على مائدة المفاوضات وسيتوسط لاحلال سلام شامل وعادل ودائم. كل ما سمعت او شهدت في الاشهر الماضية يؤكد لي الحاجة وبروز الفرصة المؤاتية للعمل بحزم وبسرعة وبوضوح. يتطلب نجاحنا بصورة خاصة احترام وتفهم الشعبين، تفهم يسعدني ان اراه ينعكس هنا في عملكم في معهد بروكنغز.
كثيرا ما ردد الوزيرالبريطاني السابق كريس باتن والذي كان له دور في عملية السلام في ايرلندا الشمالية، بأن بداية الحكمة في انهاء ذلك النزاع كان عندما تم الاعتراف بوجود صرختين حقيقيتين صرخة الالم و صرخة الغضب. والشيء ذاته موجود الان في الشرق الاوسط. فالمطلوب الان هو قيادة اخلاقية وسياسية حقيقية تصوغ رؤية وتتحمل المجازفات في سبيل اقناع الشعوب لتبني هذه الرؤية. اليوم, أكثرمن أي وقت ومضى ينظر العالم للولايات المتحدة لتولي هذه القيادة.
ويعمل معهد بروكنغز الذي تعود بداياته إلى عام 1916 كمؤسسة بحث وتحليل مستقلة ملتزمة بنشر اعمالها للرأي العام بغية أن يكون حلقة وصل بين الدراسات والابحاث وبين تكوين السياسات العامة بحيث يوفر المعهد المعرفة لصانعي القرار بالاضافة إلى توفير رؤى أفضل للباحثين تجاه قضايا السياسات العامة.