خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام أعضاء مجلسي اللوردات والعموم في البرلمان البريطاني
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام أعضاء مجلسي اللوردات والعموم في البرلمان البريطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة والسيدات أعضاء مجلس اللوردات وأعضاء مجلس العموم،
سيداتي وسادتي،
إنه لشرف عظيم لي أن أكون معكم اليوم والشكر لكم، جميعاً، على ترحيبكم الحار.
لقد مضى قرابة خمس سنوات على وجه التحديد على آخر مرة وقفت فيها أمامكم. ونحن نعيش الآن عصر يشهد تغيّرات غير عادية ومخاطر كبيرة.
فالعنف مستمر في أفغانستان والعراق. والإرهابيون قاموا بضرب لندن، وعمّان، ومدريد، ونيويورك ومدن أخرى. والاحتلال والأزمة الإنسانية في فلسطين مستمران. ولبنان بحاجة إلى الدعم الكامل من المجتمع الدولي لإعادة البناء، والحفاظ على وحدته الوطنية.
نستطيع العمل معاً من أجل عالم يسوده القانون والتقدّم وتعيش فيه شعوبنا بأمان وازدهار. وعلينا أن نختار بحرص، ونتذكر بأن علينا - وعلى أطفالنا - العيش في العالم الذي نعمل على إيجاده.
وليس هناك أي مكان تكون فيه خياراتنا أكثر أهمية مما هي عليه في الشرق الأوسط. فمنطقتنا تقوم بأدوار إستراتيجية متعددة في مجال أمن القرن الحادي والعشرين. وهي كذلك الموطن الروحي لثلاث ديانات تاريخية - اثنتين منها، المسيحية والإسلام، تشكّلان أكثر من نصف سكّان العالم. وإضافة لذلك، فنحن الجيران الأقرب لأوروبا. وقد عاشت شعوبنا معاً آلاف السنين. وعملنا معا على نمو وازدهار معظم ما يعتبره العالم الآن حضارة ً وعلوم. وكانت منطقتنا على مدى طويل حلقة الوصل للتجارة الدولية، ولها الآن أهمية بالغة في إنتاج الطاقة.
إن منطقتنا بحاجة إلى الاستقرار والسلام، من أجلنا، ومن أجلكم. ومع ذلك، فإن تواتر وكثافة الأزمات في الشرق الأوسط يتزايدان بشكل يثير الفزع. ويحدث هذا إلى جانب تغيرات هامة أخرى في البيئة الإقليمية تفتح الباب للمتطرفين واللاعبين الإقليميين الساعين إلى الهيمنة.
إن الابتعاد عن هذه التحديات ليس خياراً. فتأثيرها يمتد إلى كل زاوية في العالم. وعلينا أن نجابه هذه الأخطار، ونفكّر بطرق جديدة حول كيفية تحقيق السلام والتقدّم، وأن ننهض إلى العمل.
واسمحوا لي أولاً أن أتحدث عن النزاع في العراق. فالوضع على الأرض اليوم لا يمكن الدفاع عنه. إذ ساهمت الأعمال العدائية المتواصلة على تأخير إعادة الإعمار الاقتصادي والسياسي. ويعمل العنف الطائفي والإرهاب على وقوع المزيد من القتلى. وقد ضحّى بلدانا كثيراً أيضاً. ولست بحاجة هنا لأن أقول لكم كم قد المملكة المتحدة. وكم استوعب الأردن من الآلاف الذين فرّوا من ساحة النزاع. وكما تعلمون، فقد تم تصدير الإرهاب من العراق إلى عاصمتنا قبل عام.
أما اليوم، فعلينا أن نشترك في تحقيق هدف إعادة العراق إلى دولةً موحّدة، آمنة، ذات سيادة... تسيّر شؤونها حكومة ديمقراطية نابعة من الداخل، وتحترم حقوق جميع الجماعات... دولةً يعاد تشييد بنيتها التحتية واقتصادها، وتستطيع أن توفّر للناس الحرية والأمل. وبدون هذا كله، فلا يمكن أن نحظى بالاستقرار الدائم.
ونحن لا نستطيع تحقيق هذا الهدف من خلال عراقٍ مُجزّأ. وفي الواقع، يُحتمل أن يجلب التقسيم الطائفي عنفاً أسوأ، في المستقبل القريب وعلى المدى الطويل. وفي بلاد أنهكتها الفُرْقة، يكون المجال مفتوحاً للمتطرّفين وأولئك الذين يسعون إلى بسط نفوذهم في الشرق الأوسط، وما يتجاوزه. ومثل هذا الوضع سيزيد من إمكانية تسارع سباقات الأسلحة الخطرة ويزيد من المنافسة - مما يهدّد المنطقة، وجيرانها، والعالم.
وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نسمح للفدرالية بأن تصبح الحل الأسهل والأسرع لمشكلة معقّدة. ولكننا نحتاج إلى تأكيد متجدد على المبادرات غير العسكرية للمساعدة في الحفاظ على وحدة العراق. إن المناطق غير الآمنة لا يمكن تأمين الاستقرار لها بالقوة. فمثل هذا الاستقرار يتحصّل فقط عندما تضع جميع الجماعات ثقتها في عملية تعطيها صوتاً فيما يجري، وتضمن لها العدالة، وتؤمن الشروط اللازمة لتحقيق الأمن. ولا يمكننا تحمّل ضياع أي بارقة أمل سواء أكانت سياسية، أو اقتصادية، أو دبلوماسية.
إن إحدى الأولويات المُلحّة هي المصالحة، حتى يتمكن القادة من الجماعات الرئيسية الثلاث من الاجتماع وجهاً لوجه، وإيجاد أرضية مشتركة، والتوصل إلى حلول فعالة نابعة من الداخل. ولا بدَّ من الاعتراف بالمعاناة التاريخية للأكراد والشيعة، كما لا بدَّ من الاعتراف بمعاناة السنّة في أيامنا هذه. وجميع العراقيين بحاجة أيضاً إلى تأكيد واضح بأن العراق الجديد سيحترم حقوقهم وأمنهم.
وأخيراً، فإن العراق بحاجة إلى تفكير خلاّق حول الحوافز السياسية والاقتصادية التي يمكن أن توفر للجماعات المسلّحة سبباً لإلقاء أسلحتها والانخراط في العملية السياسية. وفي ظل الظروف الملائمة، يمكن أن يتم استيعاب بعضها في المؤسسات الرئيسية للدولة.
إن المجتمع الدولي يمكنه أن يقوم بدور هام في صياغة استراتيجيات خلاّقة لتحقيق هذه الأهداف. ومن الأهمية بمكان لأصدقاء السلام أن لا يتركوا العراق فريسة للفوضى. ونحن في المنطقة ملتزمون إلى درجة كبيرة بعراقٍ ذي سيادة، يتحكم بمقدرات أمنه ومستقبله. ولكن إذا ما عمل العالمُ على فكّ ارتباطه بهذا البلد وهو يمرّ بفترة حرجة دقيقة، فإن نتائج هذا ستكون خطيرة وإن كانت غير مقصودة. إذ سيحبط الآف العراقيين، الذين يواجهون المخاطر اليومية، من بناء العراق الجديد.
وإذا كان هناك من شك حول مخاطر غضّ الطرف عن النزاع في العراق، فكل ما علينا عمله هو أن ننظر فقط في الأزمة الرئيسية الأخرى في المنطقة، وهي الأزمة الأقدم التي ما زالت حيّة في كتب الأمم المتحدة؛ أزمة دمرت حياة الناس على امتداد ثلاثة أجيال، وأشعلت نار سوء الفهم والفُرْقة العالميين، ووفرت أداةً لتجنيد الإرهابيين في أرجاء العالم. وأنا أشير بالطبع إلى الإنكار المستمر للحقوق الفلسطينية، وهو المصدر الرئيسي المحوري للنزاع الإقليمي.
ومرة ثانية، فإن الوضع على الأرض يمر في مرحلة حرجة حيث لم يكن هناك عملية سياسية فعّالة بين الفلسطينيين والإسرائيليين على مدى خمس سنوات، ورؤية شركاء السلام لم تتحقق بعد. وفي غياب تحرّك حقيقي نحو السلام، فإن الناس في منطقتنا يشككون في صحّة َ أي عملية سلام يتم إطلاقها، ومدى صلاحيتها. والمجتمع الفلسطيني مُنقسم على نفسه بصورة لم يسبق لها مثيل. وفي الجانبين، نسمع دعوات لفرض تسوية بالقوة.
ولكن القوة ليست إلا وصفة للفشل. وكما هو الحال في العراق، فإذا ما استمرت الأمور دون ضابط، يمكننا أن نتوقع وضعاً أكثر تطرفاً وأكثر استعصاءً على الضبط ... والمزيد من سنوات العنف قبل أن يعود الفرقاء إلى طاولات السلام، هذا إذا عادوا.
والحال ليس ميؤوساً منه. ولكن علينا أن ننهض إلى العمل. والدول العربية تتفّهم هذا بصورة جيدة. ففي عام 2002م، قدّمنا عرضا للسلام يقدم وسيلة كي يتوصل الجانبان إلى ما يريدان وما يرغبان فيه. واليوم، نحن أكثر تصميماً على دعم عملية فعّالة. أصدقائي، إن هذه بارقة أمل يجب أن لا يتمّ تجاهلها.
إننا بحاجة الآن إلى تقدّم يمكن قياسه نحو هدف واضح: دولتان آمنتان، تعيشان في سلام مع بعضهما بعضاً ومع المنطقة. إن مبادرة السلام العربية تعد بضمانات أمنية لإسرائيل... وبدولة ذات سيادة، قابلة للحياة، ومستقلة في فلسطين... وبعملية تؤدي إلى تسوية شاملة. وهي أساسٌ لنتائج عملية تؤدي إلى نهاية واضحة المعالم، والية فعّالة يمكن أن توصل إلى هذه النهاية. وهي كذلك متوافقة تماماً مع الشرعية الدولية، وتحظى بموافقة جميع الدول العربية والفلسطينيين. وأنا أدعو المجتمع الدولي للانضمام إلينا في حلّ هذه الأزمة بصورة نهائية.
السادة أعضاء مجلس اللوردات الأفاضل،
السادة أعضاء مجلس العموم الكرام،
إن لبريطانيا العظمى دوراً هاماً في مجال القيادة الدولية. ولبلدكم علاقات خاصة مع الأردنيين، والفلسطينيين، والعرب الآخرين، مثلما لكم علاقات خاصة مع إسرائيل. وأنتم تقومون بدور رئيسي في الاتحاد الأوروبي وفي العلاقات عبر المحيط الأطلسي. ومنزلتكم الفريدة تعد مصدرُ قوة يمكن توظيفه للجمع بين العقول. وهناك حاجة إلى قيادتكم اليوم أكثر من أي وقت مضى، لتنيروا رؤيتنا مرة أخرى من أجل المستقبل. فمصيرانا مرتبطان، وشراكتنا تحظى بأهمية كبيرة.
لقد توجّهت في السنوات الماضية إلى شركائنا واصداقائنا، للحديث عن مخاطر تجاهل الأحداث في الشرق الأوسط. وقمت بحث الأصدقاء على عدم قبول الوضع الراهن المُتّسم بالعنف في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. وتحدّثت بصراحة وبصورة واضحة عن النتائج الوخيمة للحرب في العراق.
والآن أعود لأتحدث ثانية عن مخاطر الإخفاق في تحقيق السلام في الشرق الأوسط - سواء في العراق أو في فلسطين. وعلينا كجيران، وشركاء، ومن أجل شعوبنا، ومن أجل السلام والتعايش، أن نجد طريقاً آخر، طريقاً فعّالاً للمُضيّ قُدُماً.
ولكم جزيل الشكر.