كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني أمام طلبة الجامعات المشاركين في برنامج لاهاي الدولي
كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني أمام طلبة الجامعات المشاركين في برنامج لاهاي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحبا الجلالة،
السيدة عمدة مدينة لاهاي،
السادة الحضور،
أصدقائي،
أشكركم جزيلاً على حفاوة الترحيب، ويسعدني حقاً أن أكون معكم هنا مجددا في هذا اليوم، فليس من باب الصدفة أن اسم مدينتكم، لاهاي، يرتبط في أذهان الناس بمبادئ العدالة والسلام، كما أن برنامج لاهاي الدولي لطلاب الجامعات هو جزء مهم مما تبذله مدينتكم من التزام ملهم نحو المستقبل المشترك الذي يجمعنا جميعا.
وأود أن أعرب لكم عن مدى سعادتي بإتاحة الفرصة لي للحديث مع هذه المجموعة من الطلاب. لطالما كان التواصل مع جيلكم من أكثر الجوانب الإيجابية ضمن مسؤولياتي، والتي أشعر بمنتهى الرضا عند تلبيتها. إن الشباب، والذي يشكلون الغالبية من الأردنيين، يمثلون حاليا قوة دولية حقيقية، فإنني أرى في وجوهكم الطاقة والحماس، كما أرى اهتمامكم وحرصكم نحو العالم، إنني أرى فيكم جيلا يزخر بالمواهب.
هناك عدة مجالات يمكنكم أن توجهوا نحوها ما تملكون من حرص وطاقات ومواهب، وأود من خلال حديثي معكم اليوم أن أتناول إحدى هذه المجالات والمتمثلة في تمكين مختلف مجتمعات العالم من العيش سوية على أساس الاحترام المتبادل.
إن الإنسانية تزخر بالتنوع، فهناك أديان ومجتمعات وثقافات مختلفة. لكننا نرى كل يوم عبر وسائل الإعلام دعوات ضد هذا التنوع والاختلاف. نرى مخاوف وشكوك طائفية تذكي النزاعات؛ ونرى أناسا يقصون غيرهم ويسيئون معاملتهم لأنهم بالنسبة لهم يمثلون الآخر، ولمجرد أنهم من أقليات مختلفة أو ديانات أخرى أو نساء، رغم أنهن نصف البشرية؛ ونسمع أيضاً خطاب الكراهية المثير للريبة. ويضاف إلى كل هذا مجموعات المتطرفين الذين يستخدمون الدين ويشوهونه بهدف السيطرة على الناس وزرع الفتنة بين المجتمعات.
إن ترك هذه الأصوات والسماح لها بزرع الفرقة في المجتمع الانساني، هو أمر خطير جداً. فعالمنا اليوم مترابط بدرجة كبيرة، والتعاون الدولي أمر مهم للغاية لمواجهة التحديات أمامنا، وهي تحديات مشتركة، فكيف بإمكان أي بلد أو مجموعة حماية عالمنا الذي تتلاشى فيه الحدود؟ أو منع انتشار الأوبئة؟ وكيف بإمكان الاقتصاد العالمي أن يزدهر إن لم نعمل معا لمعالجة الفجوات التنموية ووقف حالات الركود الاقتصادي المترابطة وتداعياتها الأكثر سوءاً؟ وكيف لنا أن نحمي الشعوب إن لم تكن استجابتنا مبنية على موقف موحد في وجه الآزمات الإقليمية التي تنشر الخوف والعنف في جميع أرجاء العالم؟ وكيف لنا أن نقوم بأي من هذه الأمور دون أن نعي أن الإنسانية في جوهرها واحدة.
لطالما تعجبت ممن يدعون أن القيم والأخلاق يمكن فصلها عن حقائق الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا. إن عيشنا وعملنا المشترك يعتمد على هذه القيم والأخلاق، ويعتمد على التزامنا بمبادئنا والارتقاء نحوها. إن قيمنا تشكل رافعة لعيشنا المشترك، باعتبارها السبيل الوحيد في عالم اليوم المعقد الذي يمكن من خلاله لدولنا وشعوبنا أن تستمر وتزدهر، وفي مقدمة هذه القيم الاحترام والتسامح والتعاطف.
إنني أحمل هذه القيم كمسلم، وأشترك في ذلك مع المليارات من المسلمين على امتداد العالم، وفي مختلف مراحل تاريخنا الإسلامي. ونحن بالتأكيد لسنا وحدنا في ذلك، فأنا واثق بأن أهم قيمة، والمتمثلة في أن على الإنسان أن يعامل الآخرين كما يحب أن يعامل، هي قيمة تعلمها كل شخص موجود معنا هنا اليوم. فالديانات السماوية الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، وغيرها من المعتقدات الدينية في العالم يشتركون في قاعدتين أساسيتين، الدعوة لمحبة الله ومحبة الجار.
ليس هناك من منهاج أفضل من هذه القيم يساعدنا على تحقيق السلام والعدل الذي يستحقه عالمنا. ولجيلكم دور مركزي في تحقيق ذلك، ليس لأنكم تشكلون مستقبل الإنسانية وحسب، بل لأنكم قوة الدفع في عالمنا هذا سريع التغير، فأنتم تملكون مفاتيح القيادة، ونريدكم أن تقودونا نحو الطريق الصحيح. وأرجو أن تسمحوا لي هنا أن أقترح بضع نقاط تحدد بوصلتنا:
أولاً: وهو أمر قد يبدو سهلاً بالنسبة لكم، لكنه في الواقع ليس كذلك على الإطلاق، إنه يتطلب أن تستمروا في القيام بما تقومون به، وهو العمل على فهم عالمنا بشكل أفضل. إن هذه المعرفة تبدأ عندما نجتمع مع بعضنا البعض، في مثل هذا البرنامج العالمي على سبيل المثال، من أجل سد الفجوة بين مختلف الثقافات في حوار مبني على الاحترام. إن تحقيق ذلك لا يمكن أن يتم ما لم نتحدث ونستمع إلى بعضنا البعض بصدق وقبول للآخر.
لقد عمل الأردن بجهد دؤوب لتقريب وجهات النظر، من خلال عدة مبادرات مثل رسالة عمّان، وكلمة سواء، والأسبوع العالمي للوئام بين الأديان. ولكل فرد منكم دور يقوم به؛ فيجب أن تسخروا ما تتعلمونه هنا في البرنامج العالمي، لخدمة مجتمعاتكم، وأن تستخدموه في صفوفكم الدراسية ومجموعاتكم الرياضية، وأماكن عملكم. فليبحث كل واحد منكم عن شخص لا يعرفه من قبل، شخص ينتمي إلى عقيدة أو ثقافة مختلفة، تحدثوا واستمعوا إليهم باحترام، واستمروا في التحاور معهم، لأنكم بذلك تبنون الروابط التي توحد العالم.
ثانيا، أحثكم على أن يكون الشك والتساؤل هو نهجكم في التعامل مع أولئك الذين حادوا عن طريق الحوار، الذين يقولون لكم أن الحقيقة مقتصرة فقط على قلة مختارة وعالمة. الذين يحاولون خداعكم وتوجيهكم نحو الجوانب المظلمة لشبكة الانترنت، أو إلى طريق الكراهية المسدود. وتذكروا أن الحقيقة نور، وهو متاح للجميع ليبصره ويشاركه مع الآخرين.
وكمسلم، باستطاعتي أن أخبركم أن المسلمين يخشون جدا استغلال وتشويه معتقداتنا، سواء من قبل الخوارج أو من قبل من ينشرون الخوف من الإسلام (الإسلامفوبيا). إن الإسلام يعلمنا بأن البشر متساوون في الكرامة. وبأن علينا أن ندرك أن إنسانيتنا مشتركة، رغم تنوعها.
لقد علمنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. كما علمنا عليه الصلاة والسلام أنْ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
يجب أن لا نسمح أبدا لمن يفترون على ديننا، أو على أي دين آخر، بأن يزرعوا الفرقة في عالمنا. والحقيقة هي أن التهديد الذي يواجهنا اليوم ليس في نشوب صراعات بين الحضارات أو الأديان، بل يتمثل في من يهاجمون مستقبلنا المشترك، من خلال فكرهم المسموم الذي يدعو للكراهية. وفي هذه المعركة، فإن جميع المعتدلين، من جميع الأديان والدول والأعراق، يقفون صفا واحدا مع بعضهم البعض.
وأخيراً، أود أن أشير إلى أهمية ترجمة قيمنا المشتركة إلى أفعال. فنحن مسؤولون عن تعزيز التسامح والاحترام المتبادل في الحياة اليومية وفي المستقبل الذي نحاول جميعاً أن نبنيه. ويستطيع كل واحد منكم، كمواطن وكجار ضمن محيطه، أن يكون قدوة في التراحم وفي القيادة، وبإمكانكم أن تساعدوا مجتمعاتكم على إحقاق العدالة ونشر الاحترام المتبادل. فعلى كل منكم أن يرفع صوته في رفض أي إساءة تشهدونها أو تتعرضون لها، وباستطاعة كل فرد فيكم المساهمة في نشر القيم التي يعتمد عليها عالمنا.
أدرك أنكم – وبحكم وجودكم هنا اليوم – تهتمون جميعاً بالقضايا العالمية ومنخرطون بها. وبإمكان كل واحد منكم، كما بإمكان جميع الشباب والفتيات حول العالم، أن يوظفوا هذا الاهتمام لإحداث فرق إيجابي. فأنتم من سيقوم بتحفيز المجتمع الدولي ليتخذ إجراءات فاعلة تترجم قيمنا المشتركة، سواء بدعم التنمية المستدامة، أو بمواجهة المخاطر البيئية، أو بالوصول إلى حلول سياسية لصراعات المنطقة تشمل جميع مكونات المجتمع، والتي أجبرت العديد من اللاجئين اليائسين على الهرب من بلدانهم.
وفوق كل ذلك، علينا أن نحارب إقصاء أي فئة، خاصة الشباب، من الوصول إلى الفرص الواعدة في هذا العصر. دعونا نمنح الجميع فرصة في مستقبل تسوده مبادئ العدالة والاحترام المتبادل والازدهار والسلام.
وبدورنا، فإننا في الأردن قد تصرفنا بما تمليه علينا قيمنا في التراحم منذ بداية لجوء الملايين من السوريين في 2011 هرباً من العنف في بلدهم. إذ نستضيف الآن 1.3 مليون لاجئ سوري، بمعدل واحد لكل خمسة أردنيين، بالإضافة إلى الملايين الآخرين من اللاجئين الذين قدموا بفعل أزمات أخرى. ونحن نعتمد الآن على أصدقائنا ونتوقع منهم أن يتصرفوا بما تمليه عليه قيمهم ليساعدوا في تخفيف الحمل على شعبنا ويمنحوهم الأمل بالمستقبل، وليحولوا دون ضياع جيل كامل من المواطنين السوريين. وهنا، صاحبي الجلالة، أعبر لكم عن تقديري الكبير للدور الذي لطالما لعبته بلادكم كشريك لنا، وعلى مساعدتكم في التصدي للتحديات التي تواجهنا، فلكم ولشعبكم خالص الشكر.
وتزداد أهمية العمل الدولي المبني على القيم المشتركة خصوصا في إنهاء الصراعات. فالفشل في حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تسبب في انعدام الثقة حول العالم، وزاد من حدة عدم الاستقرار والجنوح نحو التطرف. يتساءل الشباب الفلسطيني لماذا لا تنطبق عليهم مبادئ العدل الدولية. فالفلسطينيون - كما نظراؤهم الإسرائيليون - يستحقون سلاماً دائماً ومستقبلا أفضل.
ولن يتحقق هذا السلام إذا استمرت الإجراءات الأحادية، أو إذا استمرت التهديدات ضد القدس الشريف، والتي يجب أن تظل مدينة تجمعنا ورمزاً للسلام. وسنستمر بالقيام بواجبنا الذي تمليه الوصاية الهاشمية في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، والحفاظ على الهوية التاريخية لهذه المدينة المقدسة. ولكنني أؤمن بأن على المجتمع الدولي بأكمله أن يقوم بواجبه في تعزيز الاحترام المتبادل وتحقيق العدالة للجميع.
أصدقائي، الطلبة الأعزاء،
أمام عالمنا تحديات كبيرة في هذا العصر، ويجب أن لا تفقدوا الثقة في قدرتكم على إحداث التغيير الإيجابي في العالم. فلأصواتكم أثر كبير في تحديد وجهة عالمنا ورسم معالمه في نظر الملايين، بل المليارات من الناس. فأنتم تمثلون الجيل الذي يضم مصممي ومستخدمي التطبيقات الذكية، والفنانين والكتاب، وأنتم معلمو المستقبل ومؤسسو الشركات الناشئة، وأنتم المبدعون والمبتكرون والمؤثرون.
لذا، أدعوكم لاستثمار معرفتكم ووسائل التكنولوجيا الحديثة كسبل تقودنا نحو عالم أفضل. وأن تستندوا إلى قيمكم المشتركة حتى تنير لكم دربكم نحو المستقبل. كونوا شركاء لنا وساعدونا في نبذ الجهل وغياب الاحترام، وقودوا العالم نحو الأفضل، وساهموا في بناء المستقبل المشرق الذي تستحقونه جميعا.
شكراً لكم