خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في مؤتمر البتراء الثاني: مؤتمر الحائزين على جائزة نوبل
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في مؤتمر البتراء الثاني: مؤتمر الحائزين على جائزة نوبل
بسم الله الرحمن الرحيم
إيلي،
أصدقائي،
صباح الخير. يشرّفني أن أرحّب بكم جميعاً في مؤتمر البتراء الثاني. ففي العام الماضي، طافت في مخيلتنا، إيلي وأنا، رؤيا مفادها: شراكة عالمية بين الحائزين على جائزة نوبل ... القادة الذين يمكنهم أن يجنّدوا ما حباهم الله به من مواهب فكرية وخبرات، لإيجاد حلول وإجابات للمشكلات الخطيرة في عصرنا. وقد بدأ مؤتمر البتراء الأول هذا الجهدَ الذي لم يسبق له مثيل. وستعمل مناقشاتكم، هذا العام، على التقدّم بهذا العمل خطوة إلى الأمام، وستبادر إلى إحداث تغيير إيجابي.
إن التفكير الخلاّق الشجاع يُحْدث فرقاً بالفعل. وبفضل عملكم وعمل العديد من الآخرين، جلب القرن الحادي والعشرون حياةً أفضل لبلايين الناس. ولكن بلايين أخرى لم تشارك في هذا الوعد. وهذا الشرخ ينساب في أرجاء عالمنا. إننا لا نستطيع أن نبني مستقبلاً آمناً على أساسٍ مشروخ.
وصحيح أن هناك اهتمام عالمي بالدول الأشدّ فقراً. ولكن غالبية فقراء العالم يعيشون في دول نامية أخرى - من ذوات الدخل المتدنّي والمتوسط - في اقتصادات تصارع من أجل أن تستقرّ وأن تنمّي الفرص المتاحة. ويقدّر أنه في الوقت الذي يصبح فيه الذين ولدوا في هذه الأيام راشدين، فإن منطقتي وحدها ستكون بحاجة إلى مائة مليون وظيفة جديدة لتلبية حاجات الباحثين الجدد عن الوظائف والعاطلين عن العمل.
وفي كل مكان في العالم، يرزح التقدّم تحت ثقل موروث الماضي. ونحن جميعاً ندفع ثمن القرارات البيئية التي اتخذت - أو لم تتّخذ - سابقاً. إذ أن بلداناً عديدة، في العالم النامي، تنوء بما تحمله على كاهلها من ديون تمَّ الاتفاق عليها قبل جيل. وهنا، في الشرق الأوسط وفي أمكنة أخرى، يتسبّب النزاع في إحداث معاناة هائلة وفي استثارة مشاعر غضب هائلة.
وأمواج الصدمة الصادرة عن هذه التصدّعات والأخطاء ترتحل إلى مسافات بعيدة. فموجات الوباء، والازمات الاقتـصادية، والكـوارث البيئيـة، والعنـف الذي يمارسـه المتطرفون - جميعها تظهر لنا كيف يتحوّل الخطر بسرعة إلى شأن عالمي. وعلينا أن نتحرك بنفس السرعة، كي نطوّر أسلوباً فعّالاً يتّصف بالعالمية في التعامل مع الخطر.
إن أعظم إنجازات الإنسانية تعكس ما في التعاون والاحترام المتبادل من قوّة. وقد حظيت جائزة نوبل نفسها، منذ البداية، بصبغة عالمية مفادها: أننا جميعاً نلعب دوراً في تقدم هذا العالم ورفاهه.
ومعاً فقط نستطيع أن نخلق مستقبلاً يشمل الجميع ويوحدهم. ولكن النية الحسنة وحدها لا تكفي. فالتغيير الحقيقي يتطلّب أفكاراً وعملاً. وهذا هو سرّ قوّة ما تستطيعون إنجازه، هنا، معاً، على مدى الأيام القليلة القادمة. ولنُطْلق عليه... تسمية حلّ المشكلات بطريقة وقائية.
إسمحوا لي بمناقشة مجالات ثلاثة أعتقد أن قيادتكم سيكون لها قيمة خاصة في معالجتها:
أولاً، الحاجة إلى دعم التميّز التعليمي، وخاصة في العالم النامي. فمن الواضح أن التعليم أمر مركزي فيما يتصل ببناء المستقبل. فهو يمكّن الفرد، لا من الانتاج والنجاح فحسب، ولكن بالتحلي بالمواطنة المسؤولة أيضاً. وما نحن بحاجة إليه هو ارتباطات ومعايير منهجية وأنظمة لدعم التشجيع على التفكير الخلاق والإبداع. فليس هناك مَنْ هو أقدر من الحائزين على جائزة نوبل في العالم على أن يُلهم الآخرين للتوجه نحو التميّز الفكري. ويمكن لمزاياكم القيادية أن تأخذ مسارها وتؤدي الغرض من خلال شبكة جديدة للتميّز... تربط ما بين مؤسسات البحث العلمي ومراكز المعرفة في العالم النامي. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن للحائزين على جائزة نوبل أن يعملوا على الإشراف على العمل ذي الجودة العالية في المجالات الأساسية الهامّة ومنها الطب، والعلوم، والبيئة، وغيرها كثير. وسيكون لهذه المبادرة أثرها في ظهور علماء الغد العظام... وفي العمل على تقدّم البحث العلمي الذي يحتاجه العالم النامي بصورة خاصة.
وهناك مجال ثانٍ يستفاد فيه من القيادة التي يوفرها الحائزون على جائزة نوبل وهو التنمية المستدامة. فالعديد منكم يعرفون عن الأهداف التنموية للألفية - وهي مجموعة من الأهداف التي اتفق على تحقيقها بحلول عام 2015. لقد التزمت الدول بالنهوض إلى العمل، لكن النتائج تأخرّت ولم تكن في مستوى الوعود. لذا، فعلى الدول المتقدمة أن تجعل من هذه الأهداف أولويات. والدول النامية بحاجة إلى مساعدة فنية ودعم عالمي. ونحن بحاجة ماسّة أيضاً إلى الإشراف والتوجيه المستقليّن المؤثّرين. وإحدى الآليات الممكنة في هذا السياق تشكيل لجنة للتنمية المستدامة من الحائزين على جائزة نوبل. ومرة أخرى، فإن انخراطكم ومشاركتكم سيجلبان مصداقية وخبرة فريدة من نوعها. وسيوفران قدرات من خلفيات علمية متعددة يمكن الاستفادة منها في تحديد العوائق والحواجز وتعريفها، وتوفير الخبرة العلمية، وحشد الدعم للمشروعات الأساسية الهامة.
أما المجال الثالث الذي يجب أن ينصب اهتمامكم عليه فهو المساهمة في فض النزاعات. فالسلام بين الدول يعتمد على الثقة التي تُبْنى عندما يدرك الناس القيم والأهداف المشتركة. وكما بيّين لنا التاريخ، فإن التعاون غالباً ما يبدأ بأفضل صورة في المجالات التي تشتمل على فائدة عملية وخبرة فنية تشترك فيها الأطراف المعنية. ونحن بحاجة إلى أن نعزّز مثل هذه التجارب والخبرات لدى الفلسطينيين والإسرائيليين. واليوم، هناك خبراء في الجانبين يتعاملون بشكل مُنتظم مع القضايا الهامة ذاتها - الصحة، والتنمية الاقتصادية وقضايا أخرى. فلنعمل على إيجاد منبر يجمع ما بين هذه الجماعات في المجتمع المدني في "اجتماع للشركاء من أجل السلام"، وإيجاد السبل لدعمها على طريق تحقيق السلام. وأحد المجالات الملحّة للتنسيق يجب أن يكون العمل الإنساني.
فالسلام الدائم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تسوية نهائية يتم التفاوض عليها بطرق سلمية، وتستند إلى الشرعية الدولية - دولتان: دولة فلسطين قابلة للحياة وذات سيادة، إلى جانب إسرائيل آمنة. ولكن ليس هناك ما سيمنع تحقيق التقدم بصورة مؤكدة أكثر من إتخاذ موقف المتفرج في الوقت الذي تحيق فيه كارثة إنسانية بالشعب الفلسطيني.
أصدقائي،
هنا في البتراء، سنخطو خطوة. والطريق إلى الأمام سيتطوّر من خلال أفكاركم واهتماماتكم. أشكركم على مشاركتكم في هذا المؤتمر، وعلى أفكاركم، وعلى شراكتكم. إيلي، أشكرك بصورة خاصة، على رؤيتك وإخلاصك للكرامة الإنسانية والأمل.
إن المزايا القيادية التي تتصفون بها جميعاً أساسية هامة. فالذين يتحدّثون عن التقدم بإعتباره مجرّد حديث عابر يتطلبون حلولاً سريعة سهلة. ولكن خبرة الحائزين على جائزة نوبل تبيّن لنا أن الإنجاز الحقيقي يتطلّب العمل والفكر والقدرة على الصمود. والتغيّر العالمي لا يتطلّب ما هو أقل من ذلك.
إن الناس في أرجاء العالم يريدون أن يعرفوا فيما إذا كان القرن الحادي والعشرون سيفي بوعده - بأن تغدو العدالة الدولية حقيقةً؛ وأن لا تقتصر الفرص المتاحة على القلّة فقط. لقد انتاب البعض اليأس. ومع ذلك فما زال هناك أمل عظيم .وعندما أتحدّث إلى الشباب، فإنني أسمع طاقاتهم وتصميمهم وإيمانهم بالمستقبل. وهم يطلبون منا أن نُحْدِث فرقاً، وأن نمتلك الشجاعة لإحداث فرق، وأن ننهض الآن إلى العمل على إحداث فَرْق.
وعلينا أن نستجيب لدعوتهم.
أشكركم شكراً جزيلاً.