خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل تسليم جائزة ويستفاليا للسلام

خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل تسليم جائزة ويستفاليا للسلام

ألمانيامونستر
08 تشرين الأول/أكتوبر 2016
(مترجم عن الإنجليزية)

خطاب جلالة الملك - حفل جائزة وستفاليا للسلام - تشرين الأول 2016

بسم الله الرحمن الرحيم

فخامة السيد الرئيس،
السيد رئيس الجائزة،
المنظمون والأصدقاء الكرام،

شكرا جزيلا.

أتقدم بخالص مشاعر العرفان لمواطني هذه المدينة العريقة، مونستر، وإلى كل الشعب الألماني. كما وأعرب عن التقدير والامتنان للجمعية الاقتصادية (لإقليمي ويستفاليا وليب)، لمنحي هذه الجائزة، لأنضم بذلك لقائمة الزعماء الذين نالوا هذا الشرف من قبلي على مستوى العالم.

ما يسعدني أيضا هو أن الجمعية تمنح باستمرار مجموعة من الشباب هذه الجائزة مناصفة مع شخصيات أخرى. لطالما سمعنا جميعا مقولة أن مستقبل السلام العالمي هو في أيدي شبابنا. إنه بالفعل في أيدي شبابنا الآن في ألمانيا وفي الأردن وغيرهما من دول العالم، وأهنئكم جميعا في هذا اليوم على جهودكم، وينبغي علينا الترحيب بمشاركاتهم الإيجابية في الحياة وتشجيعها. إنني أهنئ هؤلاء الشباب والشابات، وأهنئكم أنتم كذلك على تكريمهم، وأتطلع إلى استقبال البعض منهم والترحيب بهم في الأردن في القريب العاجل.

أصدقائي،
لقد كان للقيادة الألمانية دور مهم للغاية في تحقيق سلام ويستفاليا في القرن السابع عشر، وهو السلام الذي نحتفي به من خلال هذه الجائزة. وهذا الدور والالتزام بالسلام والتسامح من قبل ألمانيا هو على نفس الدرجة من الأهمية، وربما أكثر، في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. لقد كان للعديد منكم دور أساسي في هذا الجهد. وأنا أقدر عاليا رؤية وشجاعة المستشارة ميركل في الحرب ضد الإرهاب وما سببه من معاناة إنسانية. وباسمي وباسم الشعب الأردني أود أن أشكر المستشارة ميركل، وقيادة ألمانيا وشعبها، فلولا جهودكم لكان العالم في وضع أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم.

اليوم، اسمحوا لي أن أسأل أولا: ماذا يمكننا أن نتعلم من معاهدة وُقِّعَت قبل 368 عاما؟

لقد كُتب الكثير عن سلام ويستفاليا، ومساهماته في التاريخ، إذ وضع نهاية لحروب وحشية استمرت أجيالا، قُتل فيها الملايين، حتى أن البعض يقدر بأن نصف سكان ألمانيا قُتلوا في تلك الحروب. وفي هذا السياق، جاءت معاهدة ويستفاليا لتكون إنجازاً فريداً في تاريخ أوروبا، حيث تم إنهاء صراع معقد عبر المفاوضات والعمل الدبلوماسي، ما ساهم في إعادة تشكيل النظام الدولي الحديث، كما أرست المعاهدة أسسا لتسامح ديني ساهم – رغم محدوديته – في تقبل الأديان الأخرى، وهو مبدأ مركزي يعتمد عليه مستقبل إنسانيتنا جمعاء.

لقد تطلب إنجاز سلام ويستفاليا نمط تفكير جديد ومختلف. فقد حثت أصوات مؤثرة حينها الأطراف المنخرطة في إنجاز السلام على رفض الصلح وعدم تجاوز ما وقع من ظلم ورفض قبول دول مجاورة تتبنى معتقدات ومذاهب مختلفة. لكن المفاوضين، والذين ناهز عددهم في مراحل مختلفة من المفاوضات مائة وفد مفاوض، اختاروا طريقا آخر، حيث رأوا أن مصالحهم لن تتحقق إلا بالعمل المشترك لضمان مصلحة الجميع، والمتمثلة في السلام والتعاون والاحترام المتبادل.

إن السلام الذي حققته المعاهدة لم يكن مثالياً، إلا أنها حملت وعداً صادقاً بإنجازه، وليس أدل على ذلك من البند الأول من الاتفاقية والذي ينص على تعهد كل طرف بالعمل بكل إخلاص وتفان لما فيه مصلحة وخير ورفعة الأطراف الأخرى.

وهذه المصلحة الجماعية، المتمثلة في العمل المشترك، هي من أهم التعاليم والقيم المشتركة بين الديانات السماوية الثلاث التي تعود جذورها إلى منطقتنا: الإسلام والمسيحية واليهودية.

وفي حديث للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، يقول: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله. (صحيح البخاري وصحيح مسلم)

أصدقائي،
أرى في كثير من الأحيان، لدى بعض المسؤولين الغربيين وقادة الرأي، للأسف، قصورا خطيرا في فهم طبيعة الإسلام الحقيقية. والمتطرفون – من مختلف التوجهات – يستخدمون هذا القصور في المعرفة لزرع الانقسام داخل المجتمعات والتفريق بيننا. وهذا الأمر لا نفع فيه، بل هو مصدر ضرر لنا جميعا.

تخيلوا كيف سيبدو المستقبل إن لم ندعم بعضنا البعض؟ أو إن تجاهلنا العنف البعيد عنّا، والفقر، وكأنه لا علاقة له أبدا بحياتنا وبلداننا واقتصاداتنا؟ أو إن تجاهلنا أسوأ أزمة عالمية للاجئين في التاريخ البشري، وسمحنا بذلك لجيل ضائع من ملايين الشباب أن يكبروا بلا أمل؟

وتخيلوا كيف سيبدو المستقبل إذا لم يَسُدْ فيه القانون، وأصبح مرتهنا للخارجين عنه ممن يمارسون القتل الجماعي، والاضطهاد، والاعتداء على الأطفال، واستعباد النساء، وإعدام من يخالفونهم على الشاشات؟

يجب أن نرفض مثل هذا المستقبل بكل الأشكال.

فاليوم، لا بد من العمل الجماعي لإنهاء الأزمات الإقليمية، وسدّ مواطن الضعف التي يستغلها الإرهابيون. كما يجب إدماج الدول ذات الأغلبية المسلمة في منطقة البلقان في أوروبا التي تحتضن الجميع، ودعم هذه الدول حتى تبقى أبوابها مغلقة أمام الجماعات الإرهابية، فهم جزء من عائلتكم (الأوروبية) وهم خطوط دفاعكم الأمامية.

أما بالنسبة للأزمات التي أدت إلى تقسيم الناس والتفرقة بينهم، فلا بد من إطلاق عملية سياسية لمعالجة هذه الأزمات وبناء المستقبل. فبالنسبة لسوريا، يجب أن يستخدم العالم كل نفوذه لدعم عملية سياسية يقودها السوريون، وتنخرط فيها جميع مكونات الشعب السوري، للحفاظ على سيادة هذا البلد وسلامة أراضيه وإنهاء المعاناة وإحياء الأمل فيه.

وعلى نطاق أوسع، فقد حان الوقت للتركيز على المواطن، فهو حجر الأساس للاستقرار في منطقتنا. فنحن بحاجة إلى وضع ميثاق للسلام والاستقرار لمنطقة بلاد الشام، يشمل مدونة لقواعد السلوك ويعزز التعاون على مستوى منطقتنا، بما في ذلك إنشاء صندوق إقليمي يعزز إمكانياتنا في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة أمام شعوبنا.

ويشكل مثل هذا الاتفاق خطة عمل للوصول إلى منطقة يسودها السلام، ويساعدنا على توزيع الموارد والطاقات الإقليمية والعالمية على نحو فعال. كما يعمل على تعزيز الاندماج والمشاركة المدنية وحماية الكرامة الإنسانية، ضمن ائتلاف بنّاء لدول المنطقة.

أما الأردن فإنه يمضي قدماً بإنجاز وتمتين المزيد من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي تضمن مشاركة الجميع. ففي الشهر الماضي، تواجد في المملكة مراقبون من الاتحاد الأوروبي أثناء الانتخابات النيابية التي جرت استنادا إلى قانون جديد. وشكل الشباب تحت سن الثلاثين الشريحة الأكبر من الناخبين، حيث بلغت نسبتهم أكثر من 36 بالمائة.

وبينما يتقدم الأردن إلى الأمام، نجده يكافح للتكيف مع تدفقٍ للاجئين وصل حد الأزمة، فنحن اليوم نستضيف (1.4) مليون من السوريين. وقد وضعت موجة اللجوء الأخيرة الأردن تحت ضغوط غير مسبوقة طالت ضروريات الحياة من فرص العمل والطاقة والإسكان والموارد المائية. وهي أزمة تستنزف ما يعادل ربع ميزانيتنا الوطنية. ولا ننسى أن ما يقارب مليوني مواطن أردني هم لاجئون فلسطينيون مسجلون منذ عقود لدى الأونروا، فضلا عن مئات الألاف من اللاجئين العراقيين وغيرهم من ليبيا واليمن، ما يجعل الأردن أكبر بلد مستضيف للاجئين في العالم.

إنه لظلم كبير أن يُطلب من الأردنيين تحمل مثل هذا العبء الناجم عن اللجوء.

والحقيقة أنه إن عجزت الدول المضيفة في الإقليم عن أداء دورها، فهذا لا يعني أن عبء اللاجئين سيختفي، بل إنه سيتحول ببساطة إلى مكان آخر. إننا نواجه أزمة عالمية تتطلب العمل الدولي المشترك، وتقاسم الأعباء، ودعم المجتمعات المحلية المضيفة واللاجئين على حد سواء.

إن الاستثمار في الأردن هو في الواقع استثمار في الاستقرار والصمود والأمل، ليس فقط لأولئك القاطنين في المملكة، بل لكل من يعيش في المنطقة. وتقوم استجابة الأردن لتحدي اللاجئين على مبدأ ديمومة الاستقرار التي تستهدف البنية التحتية، وتوفير فرص العمل، والتجارة، والاستثمار، وغيرها. أما ضمان التحاق الأطفال بالمدارس وتأمين الوظائف لطالبيها فهو يضمن مستقبلا مزدهرا ما بعد النزاع. واسمحوا لي هنا أن أشكر ألمانيا على دورها المهم في هذه الجهود، ونقدر عالياً ما تبذله ألمانيا لدعمنا، ونتطلع دوما لمواصلة شراكتنا الوثيقة. والشكر الجزيل لكم.

أصدقائي،
إن القيمة الدينية والأخلاقية التي تحثنا على حب جيراننا هي الموجِّهُ لمسؤوليتنا العالمية، والتي يجب أن تقود كذلك العلاقة بين أتباع الأديان المختلفة. فلا شيء يخدم أهداف العصابات الإرهابية الدولية أكثر من مخاوفنا وسوء فهمنا لبعضنا لبعض.

وهنا لا بد من التأكيد أن عصابة داعش، ومن هم على شاكلتهم من الخوارج، يتلاعبون بتعاليم الدين الحنيف، ويشوهون الإسلام لتبرير أعمالهم المروعة التي يدينها ديننا والمسلمون في كل مكان. وفي نهاية المطاف، فإن هؤلاء الخوارج لا يشكلون أكثر من قطرة في محيط المسلمين الصالحين، والمواطنين الطيبين هنا وفي كل مكان.

أدعوكم، من على هذا المنبر، لنبذ الفرقة، وأدعوكم إلى تبني الأفكار التي تجمعنا في هذا اليوم الذي نحتفي فيه بأولئك الذين أرسوا الاحترام المتبادل والتعاون والسلام في الماضي.

فالإنسانية تسمو وتكون في أوج قوتها، وقيمنا تترسخ وتغدو حصينة ضد العبث، عندما يتشارك الجميع، من سائر الأديان، في الحياة والحقوق وبناء الأمل لمستقبل بلدانهم. وعندما نحقق ذلك، فإننا نبني مستقبلا يسوده السلام للبشرية جمعاء.

وشكرا.