خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل تخريج الفوج السادس والعشرين من جامعة مؤتة / الجناح العسكري
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل تخريج الفوج السادس والعشرين من جامعة مؤتة / الجناح العسكري
بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة والأخوات الأعزاء، أهلاً وسهلاً بكم جميعاً.
أنا سعيد في هذا اليوم المبارك الذي نحتفل فيه بتخريج هذه الكوكبة من النشامى من أبناء الوطن، وانضمامهم إلى ميادين الشرف والرجولة والعطاء في قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية. واسمحوا لي أن أتوجه بالتهنئة والمباركة للنشامى الخريجين، ولأهلهم، وعائلاتهم، ولهذه الجامعة، على هذا الإنجاز الكبير.
ويسعدني أيضاً أن ألتقي مع هذه الوجوه الطيبة من الأهل والعزوة، الأردنيين الأوفياء، وهم يحتفلون بمناسبات وطنية عزيزة على قلوبنا جميعاً: عيد الاستقلال، وذكرى الثورة العربية الكبرى التي حررت إرادة الأمة، وجسدت أعظم المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة، ويوم الجيش؛ الجيش العربي، رمز السيادة والكرامة الوطنية، والدفاع عن قضايا الأمة وكرامتها ومستقبل أجيالها، ويوم الجلوس على العرش، الذي نذرت فيه نفسي، كما نذرني الحسين، رحمة الله عليه، لخدمتكم وخدمة هذا الوطن العزيز. فكل عام وأنتم والوطن بألف خير.
نلتقي اليوم أيها الأعزاء، ونحن نواجه العديد من التحديات، التي يشعر معها المواطن بالقلق، وربما التساؤل حول كيفية التعامل معها، ومعالجتها بشكل صحيح.
وفي البداية يا إخوان، دعونا نحدد أهم هذه التحديات، ونميِّز بين التحديات الداخلية، وهذه حلها بأيدينا، وبين التحديات المفروضة علينا نتيجة الظروف الإقليمية والأزمات العالمية، وهذه يجب أن نتعامل معها بحكمة ومسؤولية، وضمن المعطيات والظروف الإقليمية والعالمية، التي فرضتها علينا من الأساس، وضمن إمكانياتنا المحدودة.
من التحديات الداخلية، وعلى سبيل المثال، محاولات البعض التشكيك بمدى نجاح مسيرة الإصلاح السياسي، نتيجة عدم الاستيعاب وسوء التفسير لما يرافق عملية التحول الديموقراطي من قلق، وجدال، ومناكفات بين مختلف التيارات والتوجهات السياسية أو الفكرية أو الحزبية. وهذا أمر طبيعي ومتوقع، وهو جزء من أي عملية تغيير في مختلف دول العالم. وهو ظاهرة صحية وضرورية لترسيخ ثقافة الحوار الديموقراطي البناء والعمل السياسي الفاعل.
والمهم هنا هو أن نواصل هذه العملية ونبني عليها، بدون خوف ولا تردد، فإرادة التغيير الإيجابي موجودة وراسخة، وعندنا المؤسسات الوطنية القادرة على ترجمة هذا التغيير على أرض الواقع، وفق خارطة الطريق الواضحة المعالم، وعلى أساس تكامـل الأدوار بين جميع مكونـات نظامنا السياسي.
وخارطة الإصلاح السياسي واضحة: وهي إنجاز الـمحطات الديمقراطية والإصلاحية الضرورية للوصول إلى حالة متقدمة من الحكومات البرلمانية، على مدى الدورات البرلمانية القادمة، والقائمة على أغلبية نيابية حزبية وبرامجية، يوازيها أقلية نيابية تشكل معارضة بناءة، وتعمل بمفهوم حكومة الظل في مجلس النواب، وتطرح برامج وسياسات بديلة، بحيث يترسخ دور مجلس النواب في بلورة السياسات وصناعة القرار، بالإضافة إلى الرقابة والتشريع.
والوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة يتطلب المزيد من النضوج السياسي، ومأسسة العمل الحزبي، وتطوير آليات العمل النيابي، وبما يزيد من مؤسسية عمل الكتل النيابية، ومن خلال الاستمرار في تطوير قوانين الأحزاب والانتخاب مع كل دورة انتخابية، بما يجعلها أكثر تمثيلاً وتمكيناً للحكومات البرلمانية، وكل هذا في إطار نظامنا النيابي الملكي الوراثي ووفق الدستور.
وهذا النهج الإصلاحي يتطلب أن يكون الجهاز الحكومي على أعلى درجات الاحتراف والكفاءة، وليس عرضةً للتأثيرات السياسية أو الانحياز الحزبي، وإنما يعتمد أسس الجدارة والمهنيـة والحياد، مـن خلال ثورة بيضاء مستمرة وشاملة، والاستمرار في تعزيز منظومة النزاهة الوطنية.
وسيتطور دور الملكية بالتوازي مع إنجاز هذه المحطات الإصلاحية، وستركِّز على حماية قيم الديموقراطية، والتعددية، والـمشاركة السياسية، وحماية وحدة النسيج الاجتماعي، وتمكين المؤسسات الوطنية من تولي مسؤوليات صناعة القرار، ونحن مستمرون في تعميق هذا النهج، وسأبقى الضامن لمسيرة الإصلاح.
والمهم هنا أن يدرك الجميع أن الـهدف من الإصلاح، هو تغيير حياة المواطن نحو الأفضل، وأن نجاح العملية الإصلاحية يعتمد على مدى إيماننا بها، وبأهميتها لمستقبلنا، وضرورة العمل بروح الفريق الواحد، لضمان نجاحها بالرغم من كل المعيقات التي ستواجهنا.
ومن التحديات الداخلية أيضاً، ما شهدناه في الآونة الأخيرة من بعض حالات العنف في مجتمعنا بشكل عام، وفـي بعض جامعاتنا، التي أودت بحياة عدد من أبنائنا، يرحمهم الله ويصبر أهلهم. أحداث العنف التي طالت الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، أمر غير مقبول وغير مبرر على الإطلاق، وهو غريب على قيمنا وعاداتنا وثقافتنا، ولا يمكن السكوت على هذا الأمر.
ليس هذا هو المجتمع الأردني، ولا هذه هي الدولة الأردنية. لا يمكن أن نقبل أن يكون مستقبل شبابنا رهينة لظاهرة العنف، لأن مستقبل الشباب هو مستقبل الأردن. والسؤال يا إخوان: هل هذه حالات فردية معزولة، أم هي ظاهرة لها أسباب وجذور أعمق بكثير؟ وما هي الأسباب التي تؤدي إلى العنف، وأحياناً الانغلاق على هويات فرعية، أو جهوية، أو عائلية؟
الشعور بغياب العدالة، وعدم تكافؤ الفرص يؤدي إلى الإحباط والشعور بالظلم، وبالتالي يؤدي إلى العنف. ومن جهة أخرى، التهاون في تطبيق القانون والنظام العام على الجميع، أو غياب العدالة والمساواة في تطبيق القانون، تؤدي إلى انعدام ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، واللجوء إلى العنف حتى يأخذ المواطن حقه بيده، أو للتطاول على حقوق الآخرين. والحل ليس بمعالجة هذه الأحداث ومعاقبة الذين قاموا بها وحسب، الـحل في معالجة الظاهرة من جذورها: تحقيق العدالة في توزيع مكتسبات التنمية في كل الـمحافظات، ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة، وترسيخ الحاكمية الرشيدة للدولة، وتطوير السياسات الاقتصادية والاجتماعية بالمشاركة مع القواعد الشعبية، وتطبيق القانون على الجميع بدون تهاون، ولا تردد، ولا محاباة. هذه كلها تعزز ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، وتعزز احترامه للقانون، وتعزز ثقته بأن حقوقه وكرامته لا يمكن لأحد أن يعتدي عليها.
والدولة بمؤسساتها هي الجهة المختصة بتطبيق القانون والحفاظ على النظام العام، وعلى حقوق الناس وممتلكاتهم. وليس من حق أي جهة أن تظن أنها فوق القانون، وأنا واثق أن كل مواطن أردني يدعم كل مؤسسة معنية بتطبيـق القانون، إذا شعـر أنها تطبـقه بعدالة ومساواة وشفافية.
هناك من يدعـي أن مظاهر العنـف سببها الثقافة أو البنية العشائرية. لا يا إخوان، ثقافتنا وبنيتنا العشائرية الأصيلة لا تقبل العنف، ونحن كلنا أبناء عشائر من كل المنابت والأصول، سواءً كنا في البادية، أو في القرية، أو المدينة، أو المخيم، وهذا مصدر قوتنا ووحدتنا الوطنية، وأحد أهم أسباب الأمن والاستقرار في مجتمعنا. ولم تكن العشيرة أو العائلة، في أي يوم من الأيام، سبباً للفوضى أو العنف أو الخروج على القانون، كما يظن من لا يعرفون المعنى الحقيقي للعشيرة أو طبيعة المجتمع العشائري.
بالعكس، العشيرة ساهمت بشكل رئيسي في تأسيس الدولة الأردنية الحديثة، كدولة مؤسسات وقانون، والعشيرة كانت وستبقى رمزاً للنخوة والقيم الأصيلة والانتماء للوطن والحرص على الأمن والاستقرار وسيادة القانون. وأنا – عبدالله ابن الحسين – أعتز بالعشائر الأردنية، لأنهم أهلي وعشيرتي الكبيرة.
هناك فئه قليلة حاولت الصيد في الماء العكر، وإشاعة الفوضى واستغلال أجواء الانفتاح والحرية، تعتقد أن المرونة والحكمة والصبر، الذي تعاملت به بعض مؤسسات الدولة في المرحلة الماضية، هو نوع من الضعف. لا يا إخوان، الأردن قوي وقادر على حماية أرواح وممتلكات أبنائه، وقادر في أي لحظة على فرض سيادة القانون، ولا يوجد أحد أقوى من الدولة. لكن، نحن دولة حضارية قائمة على مبدأ العدالة وسيادة القانون، واحترام حرية وكرامة الإنسان.
أما بالنسبة للتحديات الإقليمية، وأهمها الآن الأزمة في سوريا الشقيقة، فقد فرضت علينا معطيات صعبة جداً، ولكنها أصعب بكثير على الأشقاء السوريين، وخاصة الذين أجبرتهم الظروف على ترك بيوتهم وأرضهم ونزحوا إلى دول الجوار. ومسؤوليتنا تجاه أشقائنا هي مسؤولية أخلاقية، والحمد لله على نعمة الأمن والاستقرار في بلدنا، التي تسمح لنا بمساعدة أشقائنا. صحيح أن هذا يرتب علينا مسؤوليات وتضحيات كبيرة، ولكن الأردن والأردنيين كانوا دائماً على مستوى التحدي، ونصروا إخوانهم في العروبة والدين والإنسانية، والشعوب الشقيقة التي نساعدها والعالم لن ينسى مواقفنا المشرفة.
أما على الصعيد السياسي، فنحن نعمل بكل إمكانياتنا بالتعاون والتنسيق مع الأشقاء العرب، والمجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، وروسيا، والدول الأوروبية من أجل إيجاد حل سياسي يحافظ على وحدة سوريا واستقرارها، ويضمن عمل مؤسسات الدولة السورية في رعاية مواطنيها، لتشجيع الإخوة اللاجئين السوريين، ليس في الأردن فقط بل في جميع دول الجوار، على العودة إلى بلدهم. ومن جهة ثانية، العمل من أجل توفيـر الدعم المالي الدولي لتكاليف استضافة هؤلاء اللاجئين.
وفي كل تعاملنا مع الأزمة السورية، كانت حماية مصالح الأردن وشعبنا العزيز هي هدفنا الأول والأخيـر. أما إذا لم يتحرك العالم، ويساعدنا في هذا الموضوع كما يجب، أو إذا أصبح هذا الموضوع يشكل خطراً على بلدنا، فنحن قادرون في أية لحظة على اتخاذ الإجراءات التي تحمي بلدنا ومصالح شعبنا. واسمحوا لي هنا أن أتوجه معكم بتحية التقدير والاعتزاز لنشامى قواتنا المسلحة والأجهزة الأمنية، الذين قدموا أروع الأمثلة في العطاء والتضحية والإيثار في الحفاظ على أمن الوطن واستقراره، وحماية منجزاته إلى جانب رسالتهم الإنسانية النبيلة في التعامل مع الإخوة اللاجئين السوريين، فلهم منا كل الشكر والتقدير، وكل عام وهم والوطن بألف خير.
أما القضية الفلسطينية، وهي القضية المحورية في المنطقة، فما زالت على رأس أولوياتنا، وسنستمر في دعم أشقائنا الفلسطينيين حتى يقيموا دولتهم المستقلة على التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية، وسنبقى على الدوام نقوم بواجبنا التاريخي والديني بالتنسيق مع أشقائنا الفلسطينيين، والمنظمات والهيئات الدولية لحماية ورعاية الـمقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، ودعم صمود أشقائنا على أرضهم من خلال استغلال كل الوسائل المتاحة للأردن.
أما ما نسمعه في بعض الأحيان من حديث عن الكونفدرالية أو غيرها، فهو حديث في غير مكانه ولا زمانه، ولن يكون هذا الموضوع مطروحاً للنقاش، إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة تماماً، وبإرادة الشعبين والدولتين، وأي حديث في هذا الموضوع قبل ذلك، فهو ليس في مصلحة الفلسطينيين ولا الأردنيين. أمّا الحديث عن الوطن البديل أو التوطين أو الخيار الأردني، والذي تحدثنا عنه أكثر من مرة، فهو مجرد أوهام، والأردن لن يقبل، تحت أي ظرف من الظروف، بأي حل للقضية الفلسطينية على حساب الأردن، وهذا من ثوابت الدولة الأردنية، التي لن تتغير. ويا إخوان، نريد أن نتخلص من هذه الإشاعات، وإن شاء الله، هذه آخر مرة أتحدث فيها في هذا الموضوع.
يا إخوان، التحديات التي تواجهنا كبيرة. وهي تحتاج إلى تعاون الجميع، وشعبنا مستعد لتحمل الأعباء ما دامت موزعة بعدالة على الجميع، وتاريخنا يشهد بأننا نستطيع إنجاز الكثير بالقليل. وهنا أدعو جميع مؤسسات الدولة للتعاون فيما بينها، وبالشراكة مع القطاع الخاص والأهلي ومؤسسات المجتمع المدني، وتحمل مسؤولياتهم أمام شعبنا لمواجهة هذه التحديات. وبتعاون الجميع، وبالهمة العالية وبالعمل المخلص والشعور بالمسؤولية، نستطيع أن ننتصر على كل التحديات كما انتصرنا في الماضي على تحديات أكبر منها، وسيظل الأردن والأردنيون دائماً في الطليعة.
ومرة ثانية، أتوجه بتحية الاعتزاز والتقدير لكم جميعاً، ومبروك للنشامى الخريجين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.