خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة مسيسيبي
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة مسيسيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
[السناتور لوت]،
رئيس الجامعة الأستاذ خياط،
أصدقائي،
يسعدني أن أكون معكم اليوم. وأنا أعلم، أيها الأستاذ الرئيس، أن هذه الجامعة فتحت أبوابها للطلاب من جميع القارات. وهناك تسعة طلاب أردنيين يدرسون فيها حالياً، فيما تلقى العلم في رحابها الكثيرون غيرهم على مدى السنين. إن جامعة مسيسيبي العريقة تساعد على تشكيل مجتمع عالمي للمعرفة. وهذا إسهام بالغ الأهمية من أجل بناء المستقبل.
وأشعر بالاعتزاز بصورة خاصة في أن أشارك في سلسلة المحاضرات هذه، فأنا أعلم أن معهد لوت مُكرّس لتعليم شؤون القيادة من أجل الصالح العام. ولكن اسمحوا لي أن أقول إن اهتمامكم بالشؤون الدولية هو قيادة بحدّ ذاتها. فاليوم، لا يستطيع أي مهتم بالأمن وتوفير الفرص في وطنه أن يتجاهل العالم الأوسع. إذ لم يكتسب الوعي بالأحداث الدولية أهمية كما هو الحال في زماننا هذا من حيث الإرتقاء بمستوى فهمنا لما يجري حولنا، والعمل معاً للدفاع عن مستقبلنا.
وكما تعلمون، فإن العالم بأجمعه قد شهد الدمار الذي أحدثه الإعصار كاترينا هنا في ولاية المسيسيبي وساحل الخليج. وهذه هي حقيقة عصر الإعلام. ولكن هناك حقيقة أخرى، هي حقيقة عصر العولمة - الذي لا يشمل الشبكات الاقتصادية والدبلوماسية العالمية فحسب، بل وذلك الإدراك الجديد بالتواصل الإنساني أيضاً. فقد شعر الناس في كل مكان بالصدمة وانتابتهم مشاعر القلق بسبب الدمار والمعاناة التي حدثت هنا... تماما كما كان الحال عندما نهضنا جميعاً متكاتفين لمساعدة آسيا بعد إعصار تسونامي، وجنوب شرق آسيا بعد الزلزال المدمّر الذي ضربها.
وفي تشرين الثاني الماضي، عندما فجّر المتطرفون قنابلهم في عمّان، وتسبّبوا في إراقة الدماء في حفل عرس، وقتلوا الأبرياء - هبَّ الناس في أرجاء العالم معاً معربين عن غضبهم وقلقهم لما حدث. وعندما تحدّى الأردنيون الإرهابيين، وسار الآلاف من مواطنينا متضامنين، مسلمين ومسيحيين، يداً بيد، يقولون لا للإرهاب، وعندما لم تتوقف مسيرة التقدّم في بلدنا - عندما جرى هذا كله، حظينا بالدعم والمساندة من الناس في كل مكان. واسمحوا لي، نيابة عن جميع الأردنيين، أن أتوجه بالشكر لكم جميعا.
إن التفجيرات التي وقعت في عمّان دليل على الخطر المشترك الذي نواجهه. ففي السنوات القليلة التي مرّت منذ بداية هذا القرن، وجه المتطرفون ضرباتهم إلى نيويورك، ومدريد، ولندن، والرياض، وشرم الشيخ، وإسطنبول، والدار البيضاء، وبالي، والكثير غيرها. وأهدافهم واضحة: فهم يسعون إلى زعزعة الثقة بالمجتمع المنفتح وبحكم القانون. وهم يعتاشون على مشاعر السخط، والإحباط، والجهل. ويعملون جاهدين لخلق الفوضى والفّرقة حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم.
إن عملية الدفاع ضد هذا كله تحتاج إلى ما هو أكثر من الإجراءات الأمنية. فعلينا أن نحبط جهود المتطرفين الهادفة إلى إبعادنا عن المضي قُدُماً. وهذا يعني أن تظلّ أنظارنا مُركّزة على أولوياتنا. وهي في الأردن تشبه أولوياتكم إلى درجة كبيرة، وتتمثل في إتاحة المزيد من الفرص، وتنمية اقتصاد غنيّ بالوظائف حتى يتمكن شبابنا من بناء مستقبلهم، وإيجاد مجتمعات آمنة لأسرنا وأطفالنا، وإيجاد الحكم الرشيد وإدامته لحماية حقوق الإنسان وإعطاء المواطنين حصة في بناء مجتمع ينعم بالسلام.
إن هذه الاهتمامات تأتي في صميم إستراتيجية الأردن الوطنية. وفي السنوات الأخيرة، قمنا بتسريع وتيرة الإصلاح في جميع المجالات لتلبية حاجات بلدنا. والهدف هو تحقيق التقدم الحقيقي الملموس الذي يشمل جميع المناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وفي الأردن، عمل المعنيون والمهتمون من مختلف شرائح المجتمع على ايجاد برنامج اصلاح ينبع من الداخل، وهو برنامج يخدم أولا وقبل كل شيء شعبنا. ونحن نعلم أن أي تأخير في عملية الإصلاح يؤدي فقط إلى تأخير الإستفادة مما يوفره من مزايا. وهذا يجعل الأمر أكثر إلحاحا - وتصميمنا أكثر قوة. وفي الواقع، فقد تم التنويه بنجاح الأردن فعلا في مجال إصلاح التعليم وتحقيق النمو الاقتصادي. ولكن سيكون هناك دائما مقاومة للتغير. ففي بعض الأوقات، واجه الإصلاح ظروف قاسية وعوائق. وأولئك الذين يرغبون في إستمرار الأمر الواقع يجدون الأعذار لرفض الإصلاح وغالبا ما يدعون أنه مفروض من الخارج. ولكن رسالة الأردن هي أن الإصلاح نابع من داخلنا، وأن مستقبلنا عصي على الإيقاف.
وكذلك لن تثنينا التهديدات الأمنية عن السير للإمام. ففي الخريف الماضي، شكّلت حكومة جديدة وفوّضت بمهمة ذات شقّين: المضي قدماً ببرنامجنا الإصلاحي في الوقت الذي تعمل فيه على ضمان أمن شعبنا. وكما يعلم الأمريكيون، فإن السلامة العامة ليست واجب الحكومة فحسب، بل إنها أيضاً حجر الزاوية للمجتمع الحر المنفتح. والحقيقة التي لا مفر منها هي أن بلدينا لديهما واجب ثنائي الأبعاد يتمثل في حماية أمننا وحماية قيمنا في نفس الوقت. وهو تحدّ يمكننا التصدّي له، وسنقوم بهذا.
أصدقائي،
من المستحيل التحدّث عن مستقبل أفضل لبلدي أو للمنطقة دون تناول النزاعات الخطيرة السائدة في أيامنا هذه. وما دامت هذه النزاعات مستمرة، فإن التركيز في المنطقة سينصبّ على الماضي، لا المستقبل؛ وعلى الفُرْقة والجمود، لا النموّ.
إن الإنتخابات الفلسطينية التي جرت الأسبوع الماضي تعد خطوة هامة في تاريخ الشعب الفلسطيني. وعلينا أن نحترم خيارهم. وعلى مدى السنين، عبر الشعب الفلسطيني عن رغبته في السلام وعن احترامه لشرعية القرارات الدولية. لقد طفح الكيل بالنسبة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي من العنف. وهما يتطلعان لمستقبل ملؤه الأمل، ويستحقان ذلك. ومن الأهمية بمكان الآن أن يعود الطرفان بسرعة إلى طاولة المفاوضات - كما أنه من المهم، بالدرجة ذاتها، أن يستمر المجتمع الدولي في توفير الدعم.
إن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة، إلى جانب إسرائيل امنة، هو الطريقة الوحيدة لإنهاء العنف والتطرف. وهذا الحل، الذي يقوم على وجود دولتين والذي كان قد ورد في مشروع السلام العربي في عام 2002، يلقى الدعم والتأييد من المجتمع الدولي ويشكل أساس عملية السلام المستندة إلى خارطة الطريق. إن السنتين القادمتين على قدر بالغ من الأهمية. والسلام يحتاج إلى جهودنا الكاملة غير المنقوصة.
وفي العراق، هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المجتمع الدولي لدعم الشعب العراقي وهو يعمل على إعادة إعمار بلده وإعادة الاستقرار والأمن إلى ربوعه. فالعالم بأجمعه يهمّه أن يكون هناك عراق موحّد ومستقر ومزدهر. وفي واقع الأمر، فإن ملايين الناخبين تجاهلوا، في الانتخابات التي جرت في كانون الأول الماضي، تهديدات المتمردين وأدلوا بأصواتهم. ونأمل ان يتم تشكيل حكومة ائتلافية قريبا لتسير بالبلد قُدُماً نحو نظام حكم أكثر احتواء لمختلف الأطياف. ومع استمرار التقدم، ومع تقوية قوات الأمن العراقية وتعزيزها، فإن الحفاظ على الأمن والاستقرار اللازمين لتحقيق النجاح أمر أساسي لا غنى عنه.
وهناك ساحة أخرى ذات أهمية بالغة لتحقيق السلام تتمثل في الكفاح العالمي من أجل التسامح والحوار. فقد دار حديث كثير في السنوات الأخيرة عن صراع بين الحضارات. لكن حقيقة الأمر أن هناك روابط قوية تجمع بين الإسلام، والمسيحية، واليهودية. يقول النبي محمد، صلوات الله وسلامه عليه، "والذي نفس محمد بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". وتقول التوراة: "أحبوا الغريب فإنكم كنتم غرباء في أرض مصر". وأمرنا المسيح، عليه السلام، بحب الله وحب القريب: "فأحب الرب إلهك"، و "أحب قريبك كنفسك".
وفي ديني، الإسلام، ما يبيّن لِمَ يرفض المسلمون بصورة قاطعة العنف المتطرف والكراهية. يقول الله تعالى :{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}...، ويأمرنا تعالى جلّ شأنه بعدم الاعتداء: {ولا تعتدوا، إن الله لا يحبّ المعتدين}.
وقد وقف الأردن في وجه التعاليم الخاطئة، ومن أجل ذلك أطلق رسالة عمّان قبل أكثر من عام. وهي توضيح للصورة الحقيقية للإسلام، ودعوة للتعايش السلمي بين جميع بني البشر. وفي تموز من العام الماضي، نقل تجمّع عالمي لعلماء المسلمين وفقهائهم في عمّان ما ورد في رسالة عمّان خطوةً إلى الأمام، عندما أصدروا بياناً أبطلوا فيه الفتاوى المتطرفة التي تخالف المبادئ الإسلامية وتبرّر العنف. وهذه النقاط الرئيسية حظيت بمصادقة منظمة المؤتمر الإسلامي ذات الانتشار العالمي.
لا تسامح مع أولئك الذين يروّجون للتطرف: وهذا هو ما يراه المسلمين في أرجاء العالم، وهذا هو ما ينطق به صوتهم. ولن نسمح للمتطرفين أن يغلقوا الأبواب في وجه مستقبل شبابنا. ولن نسمح لهم بأن يضعوا الحواجز أمام مسيرتنا نحو السلام والتقدم العالميين.
إن رسالة عمّان مبادرة إسلامية خالصة، ولكن طريق الاعتدال ليس مقتصرا على المسلمين وحدهم. فمسؤوليتنا جميعاً أن نعمل على الترويج للتفاهم ما بين الثقافات وما بين الديانات الذي يعتمد عليه مستقبلنا. وفي أرجاء العالم، اجتمعتُ إلى مسيحيين، ويهود، وآخرين، وتحدثت معهم حول ضرورة تنشيط حوار جديد قوامه الاحترام والثقة.
إن التصدّي لتحدّيات اليوم يتطلّب منا جميعاً أن نعمل معاً. والنجاح يستدعي منا إعمال طاقتنا، وفكرنا، وأكثر من كلّ هذا إرادتنا. لقد بينتم، هنا في جامعة المسيسيبي، ما الذي يمكن للناس أن يحققوه، معاً، للتغلب على الأخطاء وعوامل التفرقة التي سادت في الماضي، ومن ثمَّ المضيّ قُدُماً نحو عهد جديد، عهد يحمل الوعد للجميع.
لقد شجعتني كلمات ابن ولاية الميسيسيبي الأديب وليم فوكنر عندما تسلّم جائزة نوبل. فقد آمن أن النصر في زمن الخطر ستكون للإنسانية - وذلك ليس بسبب التكنولوجيا، ولا بسبب السلطة، ولكن بسبب "الحقائق الإنسانية الأساسية" الكامنة في الروح البشرية وهي: التعاطف، والتضحية، وقوة الثبات. وسمّى هذه الخصائص عَظمةَ الماضي ومجده. وبمشيئة الله، ستكون أيضاً عظمة مستقبلنا ومجده.
وأشكركم جزيل الشكر.