خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة شولالونجكورن
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة شولالونجكورن
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكركم جزيل الشكر على كلمتكم الرقيقة. وأنا فخور بقبول هذا التشريف، نيابة عن جميع الأردنيين.
ويغمرني شعور بالاعتزاز في أن أكون بينكم هنا - في أقدم جامعة في تايلند- التي تعتبر موئلاً للمُثُل العليا في المعرفة والأخلاق. فمنذ أيامها الأولى، أدركت جامعتكم أن التعليم الراقي يستند إلى المبادئ الأخلاقية مثلما يستند إلى الإنجاز الفكري. وقد تجلّى هذا بوضوح قبل عام تقريباً، بعد مأساة تسونامي مباشرة. ومع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لهذا الحدث الرهيب، أرجو أن تسمحوا لي أن أنقل إليكم كيف تفاعل الأردنيون بعمق وإخلاص تجاه هذا الحدث مشاركين تايلند مشاعر الصدمة والأسى التي انتابتها آنذاك... ومعربين عن إعجابهم الكبير بشجاعتكم وعزمكم. وأنا أعلم أن أعضاء هذه الجامعة العريقة ساعدوا في توفير الإغاثة الطارئة للمنكوبين... وقدموا خبراتهم إسهاماً منهم في عملية التعافي... وأنهم يحققون تقدماً في مناحٍ علمية ستعمل على إيجاد ضمانات للمستقبل. لقد كانت جهودكم سبباً في مساعدة أعدادٍ لا حصر لها من الناس، من مختلف الأديان وشرائح المجتمع. ومِثْلُ هذه الروح مَثلٌ يحتذى في جميع أنحاء العالم.
يشرفني اليوم أن أحدثكم عن العُرى المشتركة لموروثنا الأخلاقي- العُرى التي يمكن أن تساعدنا في التصدّي لمخاطر هذا القرن وما نشهده فيه من فُرقة. فشعبانا يشتركان في احترامهما للسلام، والعدل، والتكافل والتعاطف.
وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كلَّ شيء} (الأعراف:156)
وجاء في حديث النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم : "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء".
إن الإسلام ينبذ الاعتداء على الأبرياء، في أي بقعة كانوا ولأي دين انتموا. يقول النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه: "والذي نفس محمد بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". وقد كرّس لنا، عليه الصلاة والسلام، هذا المبدأ الهام في قوله : " لا ضررَ ولا ضِرار" في الإسلام.
وهذه التعاليم تناقض تماماً الكراهية التي تعتبر القوة الدافعة للمتطرفين، من أي دين كانوا. فأيديولجيتهم وأساليبهم تتخطّى المبادئ التأسيسية للشريعة الإسلامية.
إذ أنه مهما كان نوع الإساءة التي توجه إلينا، فإن القرآن الكريم يأمرنا بأن نكون شهداء بالقسط{ ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8).
وفي الواقع، فإنه يتوجب على أيّ شخص يدّعي أن الإسلام يقوم على أيديولوجية عنيفة أن يدافع عن نفسه أمام المسلمين الأبرياء - رجالاً ونساءً وأطفالاً - الذين قتلوا لأن الأيديولوجية الفاسدة لأقلية ضالة، لم تجد هوىً في نفوسهم.
وحقيقة الأمر أن المسلمين كانوا أول المستهدفين من قبل المتطرفين الساعين إلى اسكات المعارضة.
ومع ذلك، فإن المسلمين في أرجاء العالم أبدوا مقاومة لهذا التطرف. فبعد تفجيرات عمّان في الشهر الماضي، خرج الأردنيون من مُختلف شرائح المجتمع معاً لتحدّي الإرهاب وتأكيد قيم الإسلام الحقيقية. وأنا أعلم أن أكثر من 1،2 مليار مسلم في أرجاء العالم يشاركوننا في رفض التطرّف، ويعيشون في أجواء التسامح والسلام. وصوتهم هو الصوت الحقيقي للإسلام.
وللمساعدة في إسماع هذا الصوت، أطلق الأردن رسالة عمّان في تشرين الـثاني/نوفمبر عام 2004. وهذا الإعلان القصير مُوجّه للمسلمين وللإنسانية جمعاء. وهو شرح لطبيعة الإسلام الحقيقية، ودعوة إلى التعايش السلمي بين جميع البشر. وقد أَتْبَعنْا هذه، في تموز/يوليو من هذا العام، بمؤتمر حضره ما يزيد على 180 عالماً وفقيهاً من المسلمين، من 45 بلداً يمثلون جميع المدارس الفقهية الإسلامية التقليدية الثماني (المذاهب الثمانية)...وقد دعمت بحوث ومداولات المؤتمر عشرون فتوى من المرجعيات الإسلامية الرئيسية في العالم.
وكانت نتيجة المؤتمر إصدار بيان مشترك للمساعدة في إنهاء الإساءات لديننا. وقد أعاد العلماء والفقهاء التأكيد على أن كلّ مَنْ يتبّع أحد المذاهب الإسلامية الثمانية مسلم، إسلامه صحيح، وكذلك هو حال مَنْ يمارسون التصوف الحقيقي وأصحاب العقيدة الأشعرية. وقالوا إنه لا يجوز تكفير المسلمين - وهو الأسلوب الذي يلجأ إليه المتطرفون لتبرير أعمال العنف التي يرتكبونها. كما أن البيان حدّد الشروط الواجب توافرها لإصدار الفتاوى. ويستطيع المسلمون من جميع المذاهب الإسلامية، ومن جميع بقاع الأرض، أن يؤكدوا الآن دون أدنى تردد أو شكّ، أن أيَّ فتوى تدعو إلى قتل المدنيين الأبرياء- من المسلمين أو من غير المسلمين- تنتهك مبادئ الإسلام الأساسية. وقبل أيام قليلة، وبتوصية مقدمة من الأردن، تبنت جميع الدول الإسلامية،بالإجماع، هذه المبادئ كلها، في المؤتمر الذي نظمته منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة.
إن إعادة تأكيد هذه المبادئ من قبل الدول الإسلامية في البلاغ الصادر عنها تعتبر سلاحاً قوياً ضد التطرّف. وهي تعرّي الوعود الزائفة التي يطلقها المسلمون المتطرفون وأيديولوجيتهم الفارغة، وتعمل على اجتذاب المسلمين الشبّان نحو وسطية ديننا، هذا الدين الذي يمكّنهم من أن يكونوا شركاء، شراكةً كاملة، في تقدّم الإنسانية في عصرنا.
والسلاح الآخر ضد التطرّف هو الحوار والتعاون على مستوى العالم. ذلك أن المتطرفين يستهدفون ما هو أكثر من مجرّد الناس والممتلكات، إنهم يستهدفون الأفكار.
وليس هناك ما يخدم مصالحهم أكثر من حدوث "صراع الحضارات" الذي يُنْهي التعاون والأخوّة على مستوى العالم. وهدفهم هو زرع بذور عدم الثقة والفُرْقة. وهم لا يسعون إلى إطفاء لهيب التوترات بين الناس من مختلف الأديان - بل يسعون إلى تأجيجه.
ومع ذلك فإن المتطرفين لا يمثلون الإسلام أو العالم الإسلامي. وفي الواقع، فإن هذا هو الدرس المستفاد من تدمير تمثالي بوذا في باميان بأفغانستان. فقد أدان المسلمون في كل مكان ذلك العمل. ونحن نذكر أن هذين التمثالين ظلاّ قائمين على مدى ألف سنة أو أكثر في أرض إسلامية. ولم يكن التمثالان كنزاً ثقافيا عالمياً فحسب، بل كانا أيضاً شهادة على سماحة الإسلام الحنيف. وكان تدميرهما دليلاً، ثانيةً، على كيفية انتهاك المتطرفين لكل ما هو مقدّس لدى المسلمين ولدى الآخرين.
إن الحقيقة هي أن التطرف مرفوض لدى المسلمين، في الأردن، وفي تايلند، وفي أرجاء العالم. لأن المسلمين أُمروا أن يسعوا للسلام في كل منعطف من مسيرتهم.
إذ يأمرنا الله تعالى بهذا في القرآن الكريم في قوله:{وإن جنحوا للسلم فاجنـح لها وتوكّل على الله}، (الأنفال:61).
إن الإسلام الحقيقي يمكن أن يساعد عالمنا على التعامل مع قضايا هذا القرن الأكثر دقة وحساسية - وخاصة عندما يكون هناك توتر بين أناس من ديانات مختلفة. فمثل هذه التوترات لا يمكن إزالتها وإطفاء لهيبها من خلال التأكيد على الخلافات، ومجابهة الإسلام أو قمع المسلمين. وللمسلمين هنا في تايلند تاريخ طويل باعتبارهم جزءًا هاماً من الحضارة والمجتمع. وهم يستحقون، مثلهم في ذلك مثل جميع التايلنديين، أن تُحْفظ حقوقهم وأن يعاملوا بالاحترام.
ويجب أن لا يسمح أحد لأقلية صغيرة من المتطرفين أن تعمل على إحداث الفُرْقة بين أفراد الشعب التايلندي. كما يتوجب على التايلنديين من غير المسلمين أن يعلموا أن جيرانهم المسلمين - في غالبيتهم العظمى- هم الحلفاء الأشدّ تمسّكاً بالمواطنة الصالحة، والتعايش، والسلام. وفي المقابل، فإن المسلمين التايلنديين يجب طمأنتهم بأن بلادهم ستقدّر بصورة كاملة مواطنتهم الصالحة، وتصميمهم على حل القضايا الخلافية بالطرق السلمية.
أصدقائي،
إن التئام الجرح يأتي من خلال ادراك ما يشترك الناس فيه...ومن خلال البناء على الالتزام المشترك بالسلام والعدل. وهذه القيم هي الأساس الأقوى لحلّ الخلافات... وهي توفر منبراً يمكن للمنتمين إلى ديانات مختلفة العمل من خلاله معاً نحو مستقبل يجد فيه الجميع الأمن، والفرصة، والسلام.
ومعاً، فلنمضِ قُدُماً، لإيجاد السلام والازدهار اللذين يحتاجهما مواطنونا، وللعمل على تقدّم التفهّم والتفاهم ورفض التعصّب وعدم التسامح، من أجل مصلحة الجميع وفائدتهم. ولنعمل معاً، شركاء، لنحقّق عَصْراً جديداً ملؤه الأمل.
وأشكركم جزيل الشكر.