خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة جورج تاون
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة جورج تاون
الرئيس ديجيو ايا،
أعضاء المجلس،
أعضاء الهيئة التدريسية والضيوف الأفاضل،
شكراً لكم، ويشرّفني أن أتسلّم هذه الشهادة؛ وتشريفي مضاعف إذ أتسلّمها من جامعة التحقت بها، وتحظى باحترامي العميق.
إن جامعة جورجتاون مَعْلم باقٍ على الزمن يجسّد الخير الآتي، عندما تفتح أبواب التحصيل العلمي على مصراعيها أمام المجتمع العالمي. فبترحيبكم بالتحاق الطلاب من أرجاء العالم بالجامعة، ساعدتم على خلق حوار عالمي فعلي. وأعتزّ بأن أعتبر واحداً منكم.
لقد التحقت بالدراسات العليا في جامعة جورجتاون عام 1987، قبل مجرد ثمانية عشر عاماً ، في وقت كان العالم فيه مختلفاً عمّا هو اليوم. ففي عام 1987 كان جدار برلين ما زال قائماً؛ وكان مؤشر داو جونز يتصدّر نشرات الأخبار إذا ما تجاوز حاجز (2000) نقطة. ولم تكن هناك شبكة إلكترونية تشمل العالم بأجمعه. كما لم تكن هناك مؤسسات للمواقع الالكترونية، مثلما لم يكن هناك انهيار لهذه المؤسسات في أسواق المال. وكانت التجارة العالمية جزءًا ضئيلا مما هي عليه اليوم. وحوالي نصف سكّان العالم العربي اليوم لم يكونوا قد ولدوا بعد.
إنها تغييرات وتحدّيات تاريخية. واختراقات في المعرفة والفرص الإنسانية. ومع ذلك، فإن الوقائع والحقائق اليومية المتصلة بأعداد كبيرة من الناس في أرجاء الكون لم تتغير. فعالمهم ما زال عالَمُ الفقر، والبطالة، والمصاعب، والنزاع الذي لا يتوقف.
وعندما أتحدث للناس المحتاجين، فإنهم يعبّرون لي عن رغبتهم في أن يملأ الأمل نفوسهم، وأنهم متشوّقون لأن تتاح لهم الفرص، وأنهم مستعدّون لأيام أكثر زهواً وإشراقاً. ويمكنني أن أقول لكم أنه في كل مرة تخيب فيها آمالهم، تُحيق الخسارة بجميع الأمم. لأن المحرومين في الأرض أهداف هشّة للمتطرفين: أولئك الذين يروّجون ما مؤدّاه أن العدالة الكونية لا معنى لها؛ وأن الرضى لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العنف، والفُرْقة، والعزلة الفكرية.
أصدقائي،
إننا نعيش لحظة تحمل إمكانات عظيمة، لمنطقتي وللعالم. ويمكن أن تكون عهد انفتاح وتعاون وتقدم- وزمناً مؤاتياً لإنهاء أسباب الفُرْقة القديمة، وتوسيع دائرة الازدهار. ولكننا لن نحقق مثل هذه الإمكانات إلا عندما نصل إلى الأغلبية الصامتة. وقد حان الوقت لنعطيهم أسباباً جديدة للأمل، ووسائل ناجعة للمشاركة- اقتصادياً وسياسياً، وفي تشكيل ثقافتنا الكونية. وأهم من ذلك كله، يحتاج الناس إلى أن تترسخ لديهم الثقة بأن الفرص متاحة للجميع.
هذا هو تحدّي التنمية والإصلاح في القرن الحادي والعشرين. ومن الواضح أنه ليس تحدّياً ماثلاً أمام الشرق الأوسط وحده. ولكن بالنسبة لنا في العالم العربي، نحن الذين نؤمن بالمستقبل ونؤمن بقدرات شعبنا وإمكاناته، فإنه تحدٍّ نتقبله.
قبل ما يزيد على خمس سنوات، التزم الأردن باستراتيجية للإصلاح كي تعمل على تسريع وتيرة التغيير. واتخذنا إجراءات محددة لدعم التعددية، وتعزيز النمو الذي يقوده القطاع الخاص، وبناء عقد اجتماعي متجدّد. والإصلاح الناجح، في نظرنا، ليس حدثاً. إنه عملية مستدامة تبني على ما تحققه من نجاحات- إنه دائرة فاضلة من التغيير.
وهذا يعني برامج تربوية تتزود اليافعين بوسائل النجاح في الاقتصاد الحديث. ويعني مبادرات في مجال حقوق الإنسان تمكّن النساء والشباب من المشاركة بصورة تامة في حياة الأمة. ويعني فك الارتباط بين الحكومة ووسائل الإعلام المملوكة للدولة، لدعم نمو صحافةٍ مسؤولة مستقلة. ويعني الحاكمية الصالحة الرشيدة، لتسهيل خلق الوظائف لدى القطاع الخاص والنمو الاقتصادي الوطني- وفي واقع الأمر، نما الناتج المحلي الإجمالي الأردني 5,7 في المائة في العام الماضي.
إن التغيير الحقيقي يحدث فقط عندما يتفهم المواطنون من مختلف شرائح المجتمع الإصلاح ويلتزمون به. وهذا أحد الأسباب التي تستوجب أن يكون االإصلاح الفعّال نابعاً من الداخل. كما أنه يشير إلى السبب الذي يجعل المشاركة هامة على كل المستويات، في النموذج الأردني. فإضافة إلى برلماننا الوطني المنتخب، نعمل على تأسيس أقاليم تنموية في أرجاء بلدنا- لكل منها مجلس محلي منتخب بصورة مباشرة. ومثل هذه اللامركزية ستتيح للقواعد الشعبية صوتاً مباشراً بدرجة أكبر فيما يتصل بالتنمية في إقليمها.
وقبل فترة وجيزة، طلبت من لجنة رفيعة المستوى أن تضع أجندة وطنية ترشد مسيرة البلاد في جميع المجالات - السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتضم اللجنة قادةً من الحكومة، ووسائل الإعلام، والمجتمع المدني، والأحزاب السياسية، والقطاع الخاص.
ونحن نؤمن بأن نموذج الإصلاح في الأردن مناسب للشرق الأوسط بأجمعه. فهو يتصدّى لتحديات العالم الحديث ويتجاوب مع الفرص التي يتيحها. ويستلهم أعمق القيم العربية الإسلامية في مجتمعنا ويستمد قوته منها: قيم احترام الكرامة الإنسانية، والمواطنة العالمية الصالحة، والتسامح، والسلام. وقد أسمعنا صوتنا ودعوتنا بكل وضوح فيما يتصل بهذه القيم في "رسالة عمان" حول الإسلام، وهي الرسالة التي أطلقناها وانتشرت في أرجاء العالم.
إن الإصلاح كما تبيّن للرئيس بوش، سيتخذ مساراً مختلفاً في كل بلد من بلدان الشرق الأوسط. وفي اجتماعي مع الرئيس بوش في الأسبوع الماضي، أجرينا محادثات جيدة حول التقدم الذي تم تحقيقه. فالعالم العربي يخطّ مستقبلاً جديداً؛ والقلم في أيدينا نحن. ولكننا بحاجة إلى دعم الأصدقاء في جميع أنحاء العالم، ونرحّب بهذا الدعم.
وليس هناك من مجال تتبدّى فيه أهمية مثل هذا الدعم أكثر مما تتبدّى في قضية السلام العربي- الإسرائيلي. فقد سبّب هذا النزاع اضطراباً وعدم استقرار كبيرين في منطقتنا. فأنت لا تستطيع أن تؤسس إصلاحات على أسس راسخة حين تتلاطم الأمواج العنيفة بصورة مستمرة. وليعلم الجميع أننا نرى اليوم أن أعداء السلام العادل هم أعداء التقدم العربي. ومن أجل الأطراف المعنية، والمنطقة، والعالم، نقول بأن الوقت قد حان لنعمل على تضميد جراح الأرض ووضعها على طريق التعافي.
وأمامنا اليوم، فرصة لم يسبق لها مثيل لدفع العملية إلى الأمام. فقد وافقت الأطراف المعنية على خريطة الطريق، كما باركها المجتمع الدولي من خلال اللجنة الرباعية والدول الصناعية الثمانية. وفي أوائل هذا الشهر، وفي لندن، التزمت الدول الرئيسية بمساعدة الفلسطينيين على توفير وإيجاد الأمن والفرص الاقتصادية اللذين يتطلبهما التقدم.
ويلي ذلك العمل الجاد الشاقّ المنتظر لصنع التاريخ بصورة فعلية. ومن أجل ذلك، يحتاج أصدقاء السلام دعمنا المتواصل الفعّال الذي لا يتوقف. فلنساعدهم على أن تظل أنظارهم مركّزة على وعد السلام الدائم. وهو رؤية إيجابية تقدمّت بها الدول العربية في بيروت، قبل ثلاثة أعوام خلت. ولا زلنا ملتزمين بها: دولة فلسطينية ذات سيادة قابلة للحياة- دولة تعطي شعبها كرامة الحرية، وتوفر لهم مستقبلاً يملؤه الأمل؛ وضمانات أمنية لإسرائيل، قائمة على تقبّلها إقليمياً وتنّعمها بالسلام، من البحر إلى البحر- من ساحل الأطلسي في المغرب إلى مياه الإمارات العربية المتحدة في الخليج العربي، وعملية يمكن أن تجلب معها الوفاق الإقليمي- عملية تؤدي إلى تسوية شاملة تعالج المسارين السوري واللبناني.
والقضايا الهامة الأساسية الأخرى، تحتاج أيضاً إلى دعمنا المشترك. ففي العراق، تستمر عملية إعادة الإعمار الصعبة. والعراقيون بحاجة إلى مساعدتنا وهم يقومون بإرساء أسس الأمن، وبإقامة المؤسسات الفعّالة الشاملة، وبإعادة بناء بلادهم التاريخية. وفي لبنان، يتوجب على المجتمع الدولي أن يدعم تطلعات اللبنانيين إلى مستقبل ديمقراطي يعمّه السلام. وعلينا أن نعمل معاً، على المستوى العالمي، لمكافحة الإرهاب وجَسْر الهوة الاقتصادية والثقافية التي تفصل بين الأمم.
والمفتاح لهذا هو التعليم. فأكثر من أي وقت مضى، تحتاج الشعوب والأمم إلى المعرفة- المعرفة بالقواسم المشتركة التي تربط بيننا؛ وبنقلات التاريخ وتقلباته، وبأخطاء الإنسانية ونجاحاتها. ويحقّ لجامعة جورجتاون أن تعتزّ بدورها الهام. فقد كان من حسن طالعي أنْني كنت هنا في عام 1999، من أجل تكريس مركز الدراسات العربية المعاصرة. وهو واحد من وسائل عديدة تسهم هذه الجامعة من خلالها في التعاون والتفاهم. ولنعمل على أن لا يصمت أبداً صوت هذا الحوار. واسمحوا لي أن أحثكم على أن تبقوا أبوابكم مفتوحة أمام الشبّاب والشابات من منطقتي، في الأيام والسنوات القادمة.
أصدقائي، إن بلداننا ومستقبلنا مرتبطان بصورة لا تنفصم عراها. ولدى المفكرين المبدعين في مجتمعاتنا السلطة لتحويل مسارات حياتنا في أرجاء المعمورة. ويعود الأمر لنا في أن نفتح عقولنا وحياتنا للوعد الذي يقدّمه لنا هذا القرن الذي نعيش فيه. ومعاً - في غرفة الصف، وفي مكان العمل، وفي القاعات الحكومية- يمكننا أن نجعل الوعد حقيقة ماثلة للعيان.
والشكر لكم جميعا