خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة أوكسفورد
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في جامعة أوكسفورد
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الرئيس،
السادة أعضاء الجامعة الأفاضل،
أصدقائي،
إنها لتجربة رائعة أن أنضم إليكم. وفي هذا اليوم، فهناك تجربة واحدة لي في أوكسفورد تضاهي هذه اللحظة والمتمثلة في تلك المشاعر التي غمرتني في أحد أيام عام 1982 عندما التحقت بالجامعة، وانضممت إلى هذا التجمع المميز من الزملاء وأهل العلم والمعرفة.
ويسرني اليوم كذلك أن أحظى بقبول شرف تكريمكم لي على يدي واحدٍ من أبرز دعاة الحوار العالمي، صديقي كريس باتن. فهذا التشريف هو تشريف لجميع الأردنيين الذين كانوا على الدوام مصدر إلهامي بإنجازاتهم العظيمة وعملهم الدؤوب، وإخلاصهم لأمتهم. وأنا بدوري أقول أن المسؤوليةُ التي أحملها كهاشمي مكرسة لبناء مستقبلهم. ولهذا فإنني اليوم، ونيابةً عن أبناء شعبي، أتسلم بامتنان عظيم شهادة الدكتوراة الفخرية التي منحتموني إياها.
أصدقائي،
لقد دأبت جامعة أوكسفورد، منذ العام 1190، على الترحيب بالطلاب الأجانب... مشجعةً بذلك البحث الجاد والتقصي الدقيق ... ومُلهمةً طلابها على التفكير الإبداعي الخلاق. ولهذا فهي كالمعين الذي لا ينضب بطلابها وطالباتها الذين يتخرجون منها من مختلف أرجاء العالم... من الرجال والنساء الذين نهلوا مما وفرته من معايير التميز والمسؤولية الاجتماعية. أما أهل المعرفة وعلماء الجامعة فقد أسهموا في إحداث ثورة في الفهم الإنساني وعملوا على تحقيق تقدم في رفاه البشرية... لا لبلدكم فحسب، ولكن للعالم بأسره.
وباحترام عميق لهذه الإسهامات العالمية، أود أن أتحدث اليوم عن الحاجة الملحة لفهم الخطر الذي يواجه الشرق الأوسط وكيفية التصدي له. وأود كذلك أن أتحدث عن الحاجة إلى الحيلولة دون وقوع كارثة عالمية من خلال تجنب وقوع كارثة إقليمية. وأود أن أتحدث أيضا عن الفرصة لجعل منطقة الشرق الأوسط منطقة تسهم في استقرار العالم، لا أن تكون مصدراً للأزمات التي يمتد تأثيرها على كل ما حولها.
لقد غدت الحروب بالنسبة لمعظم البلدان المتقدمة اليوم شيئاً من الماضي، ولكنها تظل بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط شيئاً ثابتاً. فمنطقتنا تقع في خط النار أمام الأيديولوجيات المتطرفة التي تسعى إلى إحلال الفرقة كي تسيطر وتسود. أما إستراتيجيتها فتقوم على الترويج للتصادم، وتحطيم الاعتدال، وقطع التعاون مع الغرب. وهذه الأقلية من المتطرفين عملت على إحداث نزاعات تنتشر حالياً بسرعة غير مسبوقة. وهناك لاعبون جدد، ومبادئ عسكرية جديدة، وقدرات متقدمة في مجال الأسلحة تعمل على تحويل المشهد الأمني من حال إلى حال. أما الإحباط فيما يتصل بالوضع الفلسطيني فقد أَذكى نار التطرف. ولم يحدث لغاية الآن ما يعمل على تغيير الانطباع العام بأن النظام العالمي قد تجاهل العالم العربي والإسلامي. كما أنني لست بحاجة للقول إن هذه التوجهات بالنسبة لمنطقة بهذه الأهمية الإستراتيجية كالشرق الأوسط تشكل أزمة، لا بالنسبة لنا فحسب، ولكن بالنسبة لكم أيضاً. فمناطقنا مترابطة ومتشابكة بعمق في مجال التجارة، وفي حركة الناس، وفي الأمن، وفي الأفكار. ولدينا مصالح مشتركة هامة أساسية في كيفية مواجهة هذا التحدي... وفيما إذا كنا سنجد الإجابات الصحيحة للعديد من الأسئلة... وفيما إذا كنا سنجدها في الوقت المناسب.
إن النماذج القوية التي يمكن أن تشكل هاديا لنا هي في متناول أيدينا. فقد وفر عالمنا والعولمة الفرصة والتقدم، لا بسبب الكفاءات الاقتصادية فحسب، بل بسبب شراكاته الممتدة أيضاً. فهنا، وفي كل مكان، يرى الناس أن الاندماج السلمي، لا العداء، هو الوسيلة للوصول إلى مستقبل أفضل. وهو الطريق الذي قادت أوروبا فيه المسيرة، من خلال إبرام مصالحات تاريخية، وبناء مجتمع إقليمي رائد. واليوم يضم المجتمع الأوروبي تحت جناحيه 27 بلداً و500 مليون نسمة... ينتمون إلى ست ديانات يُعتبر الإسلام فيها الدين الثاني من حيث عدد المؤمنين به. وهؤلاء جميعاً يشكلون مجتمعاً متنوعاً، يتعاون، في ظل حكم القانون من أجل المصلحة المشتركة.
إن الاعتدال، لا التطرف، هو الذي يمهد الطريق أمام ذلك المستقبل وذلك من خلال تعزيز التعايش والتعاون بكل ما يوفره هذا الأمر من مكاسب. وأنا أعتقد أن هذا الطريق هو الأساس لمنطقة الشرق الأوسط، لكن تحقيقه يتطلب أن نعمل معاً - بجرأة، وبفاعلية - لخلق الحيز الاستراتيجي الذي يمكن للسلام والتقدم أن ينموا فيه.
أما الخطوة الأولى لذلك فيجب أن تكون تحقيق السلام، وأن نشهد في النهاية الوصول إلى العدالة وتأسيس الدولة للشعب الفلسطيني.
إننا نجتمع هنا اليومَ في الرابعُ من حزيران وهو اليوم الذي يتردد صداه في أذن كل عربي. فالرابعُ من حزيران لعام 1967 كان اليوم الأخير الذي عاش فيه الفلسطينيون متحررين من الاحتلال حيث شكل اليوم التالي، الخامس من حزيران، بداية واحدٍ وأربعين عاماً من العنف، والمستوطنات التوسعية، والاقتصاد المشلول، والقيود القاسية المتنامية والمفروضة على حياة الناس. أما بالنسبة لإسرائيل، فقد شكلت هذه السنوات واحداً وأربعين عاماً من النزاع المتواصل. وبعد ستين عاماً من تأسيسها، ما زالت إسرائيل لا تحظى بالاعتراف من قِبَل سبع وخمسين دولة تشكل ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بسكانها الذين يصل تعدادهم إلى أكثر من سكان أوروبا والولايات المتحدة مجتمعين.
وما دام الصراع مستمراً، فإن الناس في الجانبين يحصدون الخسارة. وقد آن الأوان كي نساعد الشعوب على الفوز. وهذا الأمر بالنسبة للفلسطينيين يتأتى من خلال تحقيق العدالة وبناء مستقبل موعود في دولة مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة. أما للإسرائيليين فهو يتلخص في الاعتراف بهم وبتحقيق الأمن الذي لا يمكن أن يتأتى من خلال إتباع سياسة الانعزال خلف الجدران والتمترس بالقوة العسكرية.
إن العمل لهذا الأمر وتهيئة الأرضية اللازمة موجود والفرصة سانحة، ويمكن لأوروبا والمملكة المتحدة بصورة خاصة أن تقدم إسهاماً أساسياً من خلال القيام بدور الوسيط النزيه في المفاوضات... وأن يشكلا مصدرا للدعم الأمني... ويستثمرا في تعزيز الاقتصاد الفلسطيني. وهذه الجهود جميعا ستوجه رسالة عالمية للشباب، خاصة المسلمين منهم، مفادها أن المجتمع الدولي قادر على الوفاء بوعده في تحقيق العدالة ونشر الأمل، وأنه سيعمل على الوفاء بهذا الوعد.
وبالنسبة للشباب في منطقة الشرق الأوسط، فليس هناك ما هو أهم من هذا الأمر بتعدادهم الذي يصل إلى مائتي مليون مشكلين بذلك أكبر التجمعات الشبابية في تاريخنا وأسرعها نمواً. إن لهؤلاء الشباب ألف طريقة مختلفة ينظرون بها إلى كل ما يمكن لهذا القرن أن يقدمه من أمل... وهم على أتم الاستعداد للمشاركة في هذا الأمل. ومع ذلك، فإن معظم بلداننا ما زالت تتلمس طريقها للخروج من دائرة الفقر. فحتى في هذا الجيل الذي نشأ في ظل ثورة الاتصالات الإلكترونية، ما زالت نسبة الأمية عالية بدرجة غير مقبولة، وخاصة بين النساء. ويواجه شبابنا كذلك بعضاً من أعلى نسب البطالة في العالم وأكثرها سوءًا.
إن من الواجب علينا مواجهة هذا الأمر. وهناك حاجة على مدى السنين القليلة القادمة إلى إيجاد حلول ملموسة واسعة النطاق للقضايا التي تؤثر في حياة الناس من تنمية المجتمع وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية والطاقة التي يستطيع الناس تحمّل نفقاتها ومصادر المياه الآمنة والمدارس الجيدة والمساواة بين الجنسين وإيجاد الوظائف بما يعادل 200 مليون وظيفة لخريجي الجامعات إضافة إلى أولئك الذين يتركون المدارس.
إننا مصممون في المنطقة على أن نقود الطريق أمام هذه المسيرة. ونحن نتطلع إلى الذين يتفهمون ما يُحدق بنا من مخاطر للانضمام إلينا. لقد اندفعنا في الأردن إلى الأمام في وجه العوائق وما يتطلبه هذا الأمر من التزام أساسي بالتنمية والإصلاح. أما أفراد شعبنا فهم يشاركون بنشاط أكبر من أي وقت مضى في العالم من حولهم، رافضين أصوات التطرف والكراهية. كما أن بلدنا هو موطن انطلاق رسالة عمان... بمضامينها العالمية حول الإسلام ودعوته إلى التسامح والاحترام المتبادل والمساواة الإنسانية.
أصدقائي،
لقد ركبَ الأردنُ المخاطرَ من أجل مستقبل يظلله السلام في منطقتنا والعالم. ونأمل في التطلع إلى أعضاء هذه الجامعة من أجل الدعم الفكري والأخلاقي والعملي.
إن العلاقات بين الشعوب العربية والإسلامية والبريطانية يعود تاريخها إلى مئات من السنين. ففي حكايات كانتربيري التي ظهرت في العصور الوسطى، يخبرنا الكاتب شوسر عما يميز أي طبيب إنجليزي من أصحاب العلم والمعرفة: وهو أن يكون "ضليعاً" في أعمال الرازي وابن سينا وابن رشد. فكتاب القانون في الطب لابن سينا كان كتاباً مقرراً لطلاب الطب الأوروبيين حتى القرن السابع عشر.
واليوم، يستمر مثل هذا الإخصاب الأكاديمي الذي يتخطى حدود البلدان. وأشعر بالاعتزاز والإكبار لشهادة الدكتوراه الفخرية باعتبارها رمزاً للعلاقة الوثيقة بين أوكسفورد والعالم العربي. فالتبادلات الأكاديمية والمشاريع المُشتركة جمعت ما بين شعبينا. وقد لقي طلابنا الترحيب هنا وخريجو جامعة أوكسفورد من الأردنيين يقومون بأدوار رئيسية في مجتمعنا في قطاعات البنوك والاتصالات والعمل الإنساني والخدمة العامة وكثير غيرها.
إن مثل هذه التفاعلات بين الشرق والغرب أساسية في أيامنا هذه - ونحن بحاجة إلى المزيد منها. فنحن لا نسعى إلى مجرد تفاعلات بين وفود رسمية، بل بين الطلاب والمعلمين وأصحاب المشاريع وقادة المجتمع المحلي والمبدعين في مجال التنمية وغيرها من القطاعات. وإذا ما رفضنا قبول الجدران التي يقيمها الآخرون، فتصوروا مدى ما نستطيع تحقيقه... تصوروا المفكرين الجدد الذين سيظهرون على الساحة والفنون والاختراعات الجديدة التي ستتبلور والاختراقات العلمية الجديدة التي ستتحقق وتنير فهمنا لما حولنا.
إن الملايين من الناس في الشرق الأوسط يريدون أن يشاركوا في خلق قرنٍ من التقدم والسلام. ودعونا أن لا نسمح لعوامل الفُرقة الزائفة أن تشدنا إلى الخلف. وعلينا أن لا نرضى بالتمحور. ومعاً، يمكننا أن نترك وراءنا مظاهر النزاعات القديمة وعدم المساواة والجهل التي تجاوزها الزمن.
ومعاً أيضا، يمكننا مواجهة الهجمة على مبادئ العقل والمنطق والتعايش. ومعاً، يمكننا أن نجعل من إنسانيتنا المشتركة حقيقةً واقعة تشملنا جميعا من أوروبيين وآسيويين وعرباً ومسلمين ومسيحيين ويهوداً؛ شرقاً وغرباً.
وشكرا لكم.