خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في البرلمان الأوروبي

خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في البرلمان الأوروبي

فرنساستراسبورغ
12 كانون الأول/ديسمبر 2007
(مترجم عن الإنجليزية)

بسم ا لله الرحمن الرحيم

السيد الرئيس،

أعضاء البرلمان،

السيدات والسادة،

شكراً على ترحيبكم الحار. وبالنيابة عن شعب الأردن، يشرفني أن أزور هذه المؤسسة المميزة للمرة الثانية.

أصدقائي،

إن ما نشهده اليوم هو أوروبا متغيرة وشرق أوسط متغير. أوروبا ذات عضوية آخذة في الاتساع، وبمهمة تقوم على رؤية مفادها التعاون عبر الحدود، والاستمرار في النمو دون حواجز.

ولدينا في المقابل، شرق أوسط بآفاق جديدة وأملٍ متنامٍ، أمل بالسلام بين الجيران وبالفرص للشعوب وبالمستقبل للشباب.

وهذا الواقع لم ينضج في حالة من عزلة. فالآمال التي تحققها منطقتانا ستعمل على دفع الاستقرار إلى الأمام، وتوليد إمكانات جديدة للأمن والازدهار، على مستوى العالم. ومن مصلحتنا فعلاً أن ننجح، وهناك فرصة حقيقية أمامنا للنجاح.

فقبل أسبوعين، وبدعم من الاتحاد الأوروبي ودول من منطقتينا، اجتمع الإسرائيليون والفلسطينيون في آنابولس. وتعهَّدوا بإجراء مفاوضات شاملة بهدف التوصل إلى معاهدة سلام في عام 2008م، وباتخاذ خطوات فورية لتنفيذ التزاماتهم وفق خارطة الطريق. ولأول مرة منذ أعوام عدة، نرى تحركا نحو تسوية دائمة، وصولا إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ذات سيادة، ومستقلة.

إن هذا التقدم، هو نتيجة لعمل العديد من أصدقاء السلام، بمن فيهم قادة في أوروبا والدول العربية. ونحن نؤمن أن المطلوب بعد سنوات من العيش في ظل أزمة تزداد سوءا هو تغير في الاستراتيجية. ولذلك، فقد قمنا بحثّ المعنيين على إعلان التزام جديد بقيام دولتين، وبعملية واضحة لتحقيق هذا الهدف - من خلال جداول زمنية، ومُتطلبات قابلة للقياس، وأسس للعمل والتحرّك.

إن توافر الفرص للمرة الثانية أمرُ نادر، ولكنني أعتقد أننا أمام فرصة ثانية بالرغم من التحديات الحقيقية التي أمامنا. فقد جاء لقاء آنابولس ببارقة أمل جديدة. ويمكننا، بل يتوجب علينا، أن نؤجج هذه البارقة لتتطور إلى شعلة متقدة من الثقة، والعمل والتحرك والنتائج الملموسة.

إن أوروبا، باعتبارها الجار القريب لنا، تشاركنا اهتمامنا بحل هذه الأزمة المركزية في عصرنا. وجميع الأطراف تحترم دور أوروبا المتزن، وما تمثله من أنموذج يُحتذى في مجالات التقدم الإقليمي وتحقيق السلام. وعلى مدى سنوات عدة، كنتم شركاءَنا في البحث عن الحلول. وستستمرون كشركاء لنا أيضاً، في النجاح، لنصل إلى منطقة تعج بالحيوية يظللها السلام والازدهار في أرجاء هذا النصف من العالم الذي نشترك فيه.

إن هذه الحقائق تعطي أوروبا دوراً هاماً وبارزاً في إقامة السلام المنشود. وأنا أتحدث هنا بصورة خاصة عن الاتحاد الأوروبي، وعنكم أنتم، أصوات أوروبا، هنا في البرلمان الأوروبي. وقد أتيت هنا اليوم لأحثكم على المشاركة النشطة، وللاستفادة من مهاراتكم العملية، وحرصكم على الاستثمار في آفاق المستقبل، وللتأكيد على التزام الأردن بالعمل من أجل السلام في الأيّام القادمة التي تنتظرنا.

أصدقائي،

إن هناك مجالات رئيسية يجب أن يبدأ فيها العمل والتحرك الفوري. الأول هو دعم المفاوضات وهدفها الوصول إلى تسوية تضع نهاية للنزاع... وتضمن الأمن لفلسطين وإسرائيل... وأخيراً، وبعد طول انتظار، تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة مستقلة وذات سيادة.

ومع هذا، فلا يجب أن لا نقلل من شأن الأيام الصعبة التي تنتظرنا. فالقضايا المراد بحثها معقدة ومرت عليها عقود من الزمان. ولا بد من مواجهة المظالم التي نتجت عن هذا النزاع بحيث نتجاوزها لتصبح من الماضي. أما من زاوية إيجابية للأمور، فإن على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يتفهموا واجبهم المشترك في إنهاء النزاع. إن هناك قدر كبير من العمل والتحرّك تم إنجازه فعلاً. فمن أوسلو، وعبر خارطة الطريق، مروراً باتفاقيات جنيف، إلى المبادرات الأخرى - تتبدّى لنا مؤشرات الحلول وأُطرها. وأعتقد أن الفريقين يمكنهما أن يصلا إلى نهاية للطريق.

ولكي يحدث هذا، فإن إشراك المجتمع الدولي يعد أمراً حيوياً وأساسياً. وعلينا الاستفادة من خبرة أوروبا الفريدة بآليات وعمليات التصالح في مرحلة ما بعد النزاع. وتشمل هذه الخبرات إيجاد إطار أمني يوفِّر الضمانات للجانبين. لقد قامت قوّات حفظ السلام الأوروبية بدور بنَّاء في لبنان. والتزامكم يمكن أن يُساعد في تأمين درجة عالية من الثّقة للتسوية الفلسطينية - الإسرائيلية. أما على الأرض، فهناك حاجة ليس للموارد فقط ولكن للشراكة القائمة على استنهاض الفرص الاقتصادية، وترسيخ القناعة بأن العملية السياسية تتحرّك فعلاً، وللمساعدة على إيجاد الظروف التي ستعمل على إدامة السلام. إن الفلسطينيين والإسرائيليين يريدون أن يروا نتائج ملموسة وبسرعة. وهذا يعني الأمن من العنف ونهاية للاحتلال؛ ولكنه يعني أيضاً ظروف حياةٍ أفضل. فالوضع الإنساني في الأراضي المحتلّة مازال صعباً بالنسبة للفلسطينيين. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى أن تتوافر لهم إمكانية الوصول إلى الوظائف والتعليم... والخدمات العامّة... وغير هذا كثير. ومثل هذا العمل يبث الأمل - ويمثّل ردّاً قويّاً على التوقّعات المتطرّفة القائمة على مبدأ "لن يتغيّرشيء".

إن البلدان والمؤسسات المانحة ستجتمع، في الأسبوع القادم، في باريس لتحديد ما ستلتزم به، والتخطيط لعملية التحرّك إلى الأمام. والدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي يقومان فعلاً بتقديم المساعدة، وهو التزام يلقى احترام الناس في جميع أرجاء المنطقة.

وعند الحديث عن المجال الثاني - المرتبط بالمجال الأول - فهو يقوم على تفهّم إمكانات السلام وتوضيحها. وعلينا أن نبدأ الآن في إعادة تصوّر المستقبل، بحيث نعيش في منطقة يخلي فيها النزاع مكانه للتعاون... ليجمع الاقتصاد الإقليمي ما بين قدرات وموارد 22 بلداً - يسكنها أكثر من 300 مليون نسمة، من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي... وحيث تعمل الشراكات التي تتجاوز الحدود على إحداث التقدّم في التنمية والصحّة والبيئة، والكثير غيرها. وهذا مستقبل يمكِّن الناس من المشاركة بصورة كاملة في التقدّم العالمي. وإطلاق أفق جديد للشراكة مع جيراننا الأوروبيين، في مجالات العلوم والتكنولوجيا والتجارة.

إن هذا المستقبل الواعد هو السبب الذي يجب أن يدفعنا للتحرّك وبسرعة لتحقيق تسوية شاملة، مع التحرّك والعمل على المسارين السوري واللبناني. وفي الواقع، فإن العالم العربي بأجمعه يدرك أهمية المضيّ قُدُماً والتحرّك إلى الأمام. فقد جرى التأكيد على مبادرة السلام العربية بالإجماع في الربيع الماضي. كما أنها حظيت بدعم الدول الإسلامية من خارج المنطقة. والفرصة قائمة، بعد طول انتظار، لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، مستقلّة، وذات سيادة - وعلاقات طبيعية كاملة بين إسرائيل و57 دولة عربية وإسلامية.

وهذا بدوره يعني القبول من دول رئيسية تضمّ بلايين المواطنين، وتمثل تقريباً ثلث عدد الأعضاء في الأمم المتحدة. كما يفتح هذا الأمر أبواب مستقبل مُشْترك يسوده الأمن والسلام والشراكات الجديدة.

إنَّ تحقيق مثل هذا السلام سيترك أيضاً أثراً ملموساً على القضايا الأخرى. ففي نطاق المنطقة، سيفتح هذا الأمر أفقاً استراتيجياً جديداً - يتيح حلّ القضايا الهامّة الأخرى، من الفقر إلى انتشار الأسلحة. أما القوى العدوانية فلن يعود بمقدورها استغلال القضية الفلسطينية لخدمة مصالحها الخاصّة وسيتم كذلك تحرير الموارد لنتوجه للعمل على تقدّم إمكانات المنطقة من خلال التنمية والإصلاح.

إننا في الأردن مستعدون لملاقاة ذلك المستقبل وتلبية متطلباته. فقد مضينا قُدُماً في برنامجنا الإصلاحي بالرغم من عدم الاستقرار الإقليمي. وفي العقد الأخير، حققنا مكاسب هامة تشمل نموّ اقتصادي قويّ، وحصّة مرتفعة للفرد من الدخل، ونظام تعليمي يعتبر أنموذجاً يُحْتذى حيث كانت أوروبا شريكة هامة، من خلال استثمارات القطاع الخاص، إضافة إلى المساعدات الرسميّة. واسمحوا لي هنا أن أقول إننا نقدّر بعمق الدَّعم والصَّداقة اللذين نحظى بهما من هذا البرلمان والاتحاد الأوروبي، ونحن نؤمن بأن شراكتنا ستنمو أكثر فأكثر في الأيام التي تلي تحقيق السلام.

أصدقائي،

يمكننا اليوم أن نفكّر في شكل أوسع لعلاقة الجوار بيننا، وبإمكان هذه العلاقات أن تتسع لتمتدّ من شمال بحر البلطيق إلى جنوب البحر الأبيض المتوسّط، بحيث تشترك فيها أوروبا والشرق الأوسط. وهي الأساس التي بنيت عليه مبادرة "الشراكة اليورومتوسطيّة"، التي تشكّل منبر التعاون والتنمية من منطقة إلى منطقة. وهي علاقة قوامها اهتمامات مُشتركة عظيمة وإمكانات لا حدود لها.

إن الشباب الأوروبيين الذين هم اليوم في سنَّ الرشد لم يعرفوا أبداً أوروبا الـمُقسّمة. أمّا أقرانهم من الفتية الفلسطينيين والإسرائيليين فليس لديهم مثل هذه التجربة الإيجابية، فقد نشأوا في عالم من الفُرْقة والنزاع. والآن، أمامنا فرصة لنزيل سويةً الحواجز أمام مستقبلهم ونترك الماضي وراءنا.

واليوم، يضمّ البرلمان الأوروبي عدداً من البلدان الأعضاء أكبر بكثير مما كان عليه الحال عندما تحدثت هنا قبل خمس سنوات فقط. وهذا الأمر هو نتيجة الالتزام على امتداد المنطقة لتنمية رقعة الشراكة والتقدّم. والشرق الأوسط يعمل على تعزيز هذا الأمر. والآن، يمكننا معاً أن نساهم في إنجاح هذا العمل.

أما اليوم، فقد بدأت عملية سلام متجدِّدة. وقد رأينا مثل هذه البدايات وهي تُمْنى بالإخفاق في الماضي. ولكن في هذه المرّة، أدّى توالي الأحداث إلى إيجاد نوافذ جديدة للنجاح. والآن، يمكننا معاً أن نلبّي وعد السلام، ويجب علينا أن نلبّي هذا الوعد.

أصدقائي،

إننا في الأردن ندرك أن الخطوة الأولى لشجرة الزيتون لتحيا تكمن في زراعتها. ومن ثمَّ تنطلق مائة عملية للعمل بنشاط لخلق خلايا الحياة وهياكلها لتتجذّر ويحدث النمو وتتكوّن عناصر القوّة التي تضمن البقاء. ومن الخارج ينساب الماء والدعم لإدامة الحياة وإنتاج ثمرة جديدة.

وعند النظر من هذا المنظار لما يحدث في الشرق الأوسط، فيمكن القول أنه تم للتو زرع غصن زيتون جديد. والآن لا بدَّ للعمل الحقيقي من أن يبدأ. وبأيدينا فرصة بدء العملية وتأمين الهياكل التي ستجذّر السلام وتساعده على النمو وإدامته ليعبر بنا إلى المستقبل.

ولهذا، فإنني أحثّكم على المشاركة في هذا الجهد حيث يمكن لشراكتنا أن تقود إلى تحوّل تاريخي، ومحصول وافر نتيجته سنوات من السلام والازدهار تسفيد منها شعوبنا ويستفيد منها عالمنا.

وأشكركم شكراً جزيلاً.