مقابلة جلالة الملك عبدالله الثاني مع صحيفة الشرق الأوسط
الشرق الأوسط: جلالة الملك، القضية الملحة التي تفرض نفسها على الأمن القومي الأردني، هي القتال الدائر في سوريا وتوسع الأطراف المشاركة فيه، من خلال حزب الله، والتقارير حول الدعم الإيراني، كيف تحمون الأردن من انعكاسات هذه الأزمة؟
جلالة الملك: كنّا من أوّل المحذرين من خطورة تطور العنف الدائر في سوريا، الذي بدأ كحركات احتجاجية ومطلبية سلمية ومشروعة، كان يمكن استيعابها، فتحولت من معارضة إلى ثورة مسلحة، وتدريجيا إلى نزاع أهلي بأبعاد طائفية ومذهبية، والآن بات واضحاً للكل أن الأزمة السورية قد تمتد من حرب أهلية إلى نزاع إقليمي ومذهبي، لا تحمد عقباه، ولا يعلم أحد أين يمكن أن يصل مداه.
لطالما حذّرت من سهولة تصدير الأزمة السورية إلى الخارج بسبب تداخل التركيبة الديمغرافية لدول الجوار. ويبدو أن هناك مساع للهروب من هذه الأزمة داخلياً إلى الأمام عبر تحويلها إلى أزمة إقليمية، وعلى الحريصين على مستقبل المنطقة واستقرارها وأمن أجيالها أن يضعوا حدا للتمدد الإقليمي للأزمة السورية، فهي تتسارع وتتضخم. الوضع بحاجة إلى حلول، وقد آن الأوان لتنسيق عربي ودولي أكثر جدية من أجل وقف تداعيات الأزمة السورية، ووضع حد لها، ووقف امتداداتها. والوضع لا يحتمل الانتظار.
لقد سألتَ عما نبذله لحماية الأردن من انعكاسات الأزمة، والواقع أننا الأقل عرضة لخطر الانقسام والتوتر الطائفي بسبب التركيبة المتجانسة للمجتمع الأردني، والحمد لله على ذلك، وأيضا بسبب العملية التاريخية لبناء الهوية الوطنية الأردنية الجامعة، وقد كفل هذا الأمر حمايتنا من الانزلاق نحو الصراعات الطائفية والعرقية على مدار التاريخ، إلا أننا الأكثر تعرضاً لانعكاسات أزمة اللجوء إذ وصل عدد اللاجئين السوريين في الأردن إلى نحو 550 ألف لاجئ، وهذا يضعنا في قلب الأزمة السورية. ولكن دعني أؤكد للعالم أجمع بأننا لن نسمح بأن يُمَسَّ أمننا، ولا مواطنونا، ونحن قادرون على اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لحماية الأردن، والتجربة تدل على صلابتنا في حماية أراضينا. وقواتنا المسلحة الأردنية مشهود لها إقليميا وعالمياً. كما أن علاقاتنا الدولية المميزة مكنتنا من توفير المساعدات الفنية لدعم قدراتنا الدفاعية.
شعبنا الأردني واعٍ لخطورة ودقة المرحلة والتحدي الأمني الذي تفرضه الأزمة السورية، وأؤكد لك أن الرادع لأي خطر خارجي هو اللحمة الوطنية التي نعتز بها، وجبهتنا الداخلية موحّدة بحمد الله، وهي الأساس في حماية الأردن، لأن الكل مؤمن بأنه شريك في الدفاع عن الوطن وإنجازاته ومقدراته.
الشرق الأوسط: وكيف ترون مستقبل سوريا، في ضوء ما هو دائر، مقسمة أم موحدة؟
جلالة الملك: سوريا مقسمة يعني نزاعا مفتوحاً، يقوض الاستقرار في المنطقة ويعطل مستقبل أجيالها. تقسيم سوريا ليس في مصلحة أحد، والمساس بوحدة سوريا هو وصفة للخراب. دعونا نتخلص من هذه الأفكار من قاموسنا ونرجع إلى الحل الأمثل والمنطقي، والذي نأمل أن يتم دعمه وترجمته بمبادرة وغطاء سياسي دولي، والمتمثل في الجهود المبذولة لعقد مؤتمر دولي يطبق ما تم الاتفاق عليه في جنيف من قرارات عام 2012 وهو: وقف فوري للعنف، إطلاق عملية انتقالية سياسية شاملة تضم وتمثل جميع مكونات المجتمع السوري، وأكرر جميع مكونات المجتمع السوري، وعملية مراجعة ومصالحة، وإصلاح سياسي حقيقي يتوافق عليه وينفذه السوريون، وتكثيف الجهود الإغاثية داخل سوريا لتسريع عودة اللاجئين إليها. فرغم كل الآلام والدماء والعنف والتخريب، آمل أن المصالحة والتسوية مازالت ممكنة، فمستقبل سوريا وإنهاء معاناة شعبها مسؤولية في أعناقنا جميعا.
الشرق الأوسط: جلالة الملك، هل هناك اتصالات مباشرة مع القيادة السورية، أو نصائح تقدم بشكل أو بآخر، بحكم الجوار الجغرافي بين البلدين؟
جلالة الملك: دعني هنا أجيب عليك بالتساؤل التالي: هل ترى في أداء سوريا الرسمي ما يعكس قبولهم للنصيحة من بلد كالأردن مؤمن بالديمقراطية والسلمية فلسفة حكم ونهج حياة؟ لا، للأسف، لم تعد النصيحة مسموعة في ظل انتهاج العنف، وبالرغم من محاولاتنا الصادقة في بداية الأزمة لمد يد العون وبذل النصيحة ومشاركة الدروس والعبر من منطلق حرصنا على شعب سوريا وسلامة ووحدة أراضيه، ناهيك عن حسن الجوار، فقد تم إهمالها، ما اضطرنا إلى محاولات إعلامية ودبلوماسية لبعث التذكير تلو الآخر بخطورة الانزلاق في دائرة من العنف والدماء والخراب.
إن الأزمة السورية اليوم هي من أهم مصادر القلق للسياسة الخارجية الأردنية، وهي في صميم تواصلي ومباحثاتي مع الزعماء الدوليين والإقليميين. ويكاد لا يمر لقاء يجمعني بأي شخصية دولية دون بحث الأزمة السورية وتداعيتها وسبل معالجتها، وقد كانت محور الحديث في لقاءاتي الأخيرة مع الرئيس الأمريكي في نيسان الماضي، ورئيس الوزراء البريطاني كاميرون الأسبوع الماضي في لندن، وأيضاً خلال لقائي في عمّان مع الرئيس الفرنسي أولاند قبل أيام، واتصالي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مؤخرا، وخلال زيارتي قبل أشهر إلى موسكو ومباحثاتي مع الرئيس فلاديمير بوتين، واللقاءات التي نعقدها مع كل المسؤولين العرب والأجانب الذين يتوافدون على عمان باستمرار.
يؤلمنا أن نرى سوريا بحواضرها ذات الامتداد الأطول في التاريخ الإنساني تتحول إلى فسيفساء من العنف والكراهية. كما يؤلمني ويؤلم جميع الأردنيين أن نرى دماء الشعب السوري تسفك. لقد وصلت الأمور إلى مستوى على الجميع داخل سوريا وخارجها أن يقف ويقول: كفى.
الشرق الأوسط: ولكن، وجود اللاجئين السوريين في الأردن بات مسألة ضاغطة، وكما قلتم في تصريحات أخيرة، فإنهم أصبحوا يعادلون عشرة في المائة من سكان البلاد. كيف تتعاملون مع هذه المسألة اقتصاديا، وهل هناك مساعدات تأتي، وهل سيكون الأردن مستعدا لاستقبال المزيد، إذا تواصل القتال هناك؟
جلالة الملك: التعامل مع أزمة اللاجئين السوريين في الأردن يتم على حساب القليل المتاح من مواردنا الذاتية، وهو بالتالي تعامل غير مستدام، ولا يمكن الاستمرار به إلى الأبد. لا شك أن هناك تقديرا عالميا كبيرا لما يقوم به الأردن، وهناك دعم دولي وعربي، وجهود إغاثية وأخرى خيرية، كلها مشكورة ومقدّرة، ولكن حجمها ومستوى تدفقها لا يفي بالاحتياجات الحقيقية والمتسارعة للاجئين السوريين.
الأردن يتحمل عبئاً هائلاً يتمثل في الضغط على البنية التحتية والموارد الطبيعية، خاصة المياه والطاقة، والأهم الصدمات التي يتسبب بها تدفق اللاجئين للاقتصاد الوطني مثل التشوهات في سوق العمل ومزاحمة الأردنيين على المتوفر من الفرص، فضلا عن التعليم والرعاية الصحية. لقد أشرتُ للتو إلى وجود تخطيط وتنفيذ مدروس في تحويل الأزمة السورية من مشكلة داخلية إلى مشكلة إقليمية، وعلى الدول الحريصة على دعم نهج الاعتدال والاستقرار ألا تترك الأردن وغيره من الدول الشقيقة يواجهون هذه المخططات لوحدهم.
الجهد الإغاثي الدولي والعربي مقدّر مرة أخرى، وقد أطلقت الأمم المتحدة أخيراً نداء استغاثة هو الأكبر في تاريخها، لكن الحل لا يكون بالعمل الإغاثي فقط، الحل يكون بالعمل السياسي المنتج الذي يقود إلى وقف العنف وعودة اللاجئين السوريين.
عندما علت بعض الأصوات داخلياً اعتراضاً على تدفق اللاجئين من الأشقاء السوريين، كان الرد الإنساني: كيف يمكن لنا أن نغلق حدودنا في وجه امرأة تحمل رضيعها وتهرب تحت القصف؟ ما أخشاه هو أن نُوْضَعَ في موقف صعب، لا قدّر الله، نعجز فيه عن تقديم المساعدة الإغاثية لأشقائنا اللاجئين السوريين، وهذا يمثل نجاحاً لمساعي تصدير الأزمة السورية، ويجب أن لا نسمح بذلك إنسانيا وسياسيا، يجب ألا يتراجع الجهد والدعم الإغاثي، ويجب ألا يتوقف الضغط السياسي من أجل حل سياسي انتقالي شامل.
الشرق الأوسط: جلالة الملك، تحدثتم سابقا وقبل كل العواصف السياسية، التي ضربت المنطقة، محذرين من تشكل «هلال شيعي». هل تشعرون أن هذا يتحقق الآن، وكيف تتفادى المنطقة، في رأيكم، الوقوع في هذا الفخ؟
جلالة الملك: التخوف الذي حذرنا منه في السابق هو أن يكون هناك هيمنة سياسية لمحور على أساس مذهبي، وليس القصد المذهب الشيعي كعقيدة. القضية هي في استغلال الدين والمذهب كوسيلةً لتحقيق مآرب سياسية. الإسلام أكبر وأعظم وأسمى من كل ذلك، وأنبل من أن يُتخذ وسيلة للوصول للسلطة وبث الفرقة.
لا يمكن لنا السكوت على محاولات العبث بمصير المنطقة وشعوبها عبر استغلال الدين والمذاهب في السياسة واتخاذها وسيلة للفرقة. وهنا لا بد أن أحذر من أن التوسع في إذكاء نار الطائفية في العالمين العربي والإسلامي سيكون له أبعاد مدمرة على أجيالنا القادمة وعلى العالم. وأكثر ما نخشاه أن يتوسع الصراع في سوريا، ويتحول إلى فتنة بين السنة والشيعة على مستوى المنطقة.
منَ الله علينا، عبر تاريخنا الإسلامي، وجنَبنا الفتنة الطائفية نسبة بالأديان الأخرى. لكننا الآن أمام أمر واقع مفاده أن كلا من السنة والشيعة يظن أنه لا مفر من حرب طائفية عقائدية مهلكة في سوريا. إن تركنا الطرفين على قناعتهما أن ما يحدث في سوريا هو جهاد من حيث المبدأ، فهذا يعني أنه لا نهاية لهذا الصراع والقتال، لأن السنة والشيعة حقيقة ستستمر إلى يوم الدين. ما يحصل في سوريا حقيقة هو ثأر مذهبي طائفي (السنة تنتصر للسنة، والشيعة تنتصر للشيعة)، وهذه مسألة مهمة ينبغي على الكل إدراكها. إذا ما استطعنا أن نوقف الصراع وأن نحقن الدماء في سوريا، وأن نصل إلى حل سياسي انتقالي يشمل الجميع، فيمكن للسنة والشيعة في هذا البلد أن يتصالحوا ويتعايشوا مستقبلا، الأمر الذي يحفظ وحدة سوريا وأرضها وشعبها.
ولكوني مسلما هاشميا، فإن مسؤوليتي التاريخية تحتم علي أن أعمل بكل طاقتي مع العقلاء في العالمين العربي والإسلامي لمنع حدوث فتنة عمياء، وحث السياسيين وعلماء الدين على عدم التجييش وإثارة الفتنة واستغلال الدين في السياسة. على الجميع أن يتذكر أن ما يجمعنا كمسلمين مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أكثر بكثير من المسائل التاريخية التي نختلف عليها، وهذا هو أساس ما سعينا لتوضيحه في الإجماع التاريخي على محاور "رسالة عمان" الأساسية، خصوصا إجماع الأمة على عدم التكفير.
الأردن يؤمن بالحوار سبيلا للوصول إلى الصلح والتوافق حول جميع الإشكالات الإقليمية. على الجميع أن يفكر بمستقبل أبنائه وأحفاده. لا مجال للحديث عن فرقة طائفية تدخل المنطقة في دوامة من المجهول. علينا جميعا أن نتحلى بالحكمة والشجاعة، وأن نكون على قدر المسؤولية والأمانة التاريخية. وكما يقول الله سبحانه وتعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا".
الشرق الأوسط: جلالة الملك، أجرى الأردن أخيرا انتخابات، قاطعتها جماعة الإخوان المسلمين، وجرى تشكيل حكومة جديدة، هل تزعجكم هذه المقاطعة؟
جلالة الملك: أشعر بالأسف حقيقةً لمقاطعة أي قوى سياسية للعمل السياسي المنتج والبناء والذي تستطيع من خلاله تمثيل ناخبيها، وطرح برامجها، والمشاركة في التشريع وصناعة القرار، وتداول الحكومات، وخاصة عندما تأتي المقاطعة من حركة سياسية مثل جبهة العمل في الأردن، التي عُرِفَ عنها تاريخيا بحكمتها وعقلانيتها.
على أي حال، الانتخابات الأخيرة، وما تلاها من مشاورات نيابية قادت إلى تشكيل الحكومة، هي تجربة وخطوة على طريق التحول الديمقراطي وتعميق نهج الحكومات البرلمانية، بما فيها من دروس وبما ستُراكِمُ من خبرات. إن مجتمعنا ماضٍ نحو الديمقراطية، والمواطنة الفاعلة، وفيه أطر وقنوات عديدة للمشاركة وللتعبير والتمثيل والتمكين الديمقراطي، سواء بشكل مباشر من خلال مجلس النواب، أو مؤسسات المجتمع المدني، أو من خلال الإعلام، أو العمل الجماعي أو الفردي التطوعي. كما أننا ذاهبون باتجاه الانتخابات البلدية، وستكون الفرصة متاحة من جديد للجميع للمشاركة والتعبير وتولي مسؤولية تمثيل المواطنين، وآمل أن تسود روح المشاركة والرغبة في التغيير الإيجابي وتتراجع دعوات المقاطعة والسلبية والتشكيك.
الشرق الأوسط: في ورقتكم النقاشية الأخيرة، تحدثتم عن بناء النموذج الديمقراطي، والوصول إلى حكومات برلمانية. كم من الوقت يحتاج ذلك في تقديركم؟
جلالة الملك: لو كان سؤالك حول رغبتي الشخصية في الوصول إلى الحكومات البرلمانية بشكلها المتقدم كما في الديمقراطيات الغربية العريقة، لكان جوابي: أريدها اليوم قبل غد. أمّا واقع الحال فيقول غير ذلك. لقد كان بالإمكان أن نقدم إصلاحات تجميلية، ونكتفي بإشراك نواب في الحكومات، وندعي أننا أنجزنا حكومة برلمانية مكتملة، وتبقى هياكل السلطة وصناعة القرار كما هي. لكنني لا أنشد انتصارات إعلامية وسياسية آنية، بل إصلاحاً حقيقياً يشمل جميع حلقات المجتمع، وسيعبر عن نفسه في أحد المراحل بإنجاز حكومة برلمانية فاعلة ومكتملة.
وأريد هنا أن أطرح عليك السؤال التالي: كم من الوقت استغرق إسبانيا لإنجاز تحولها الديمقراطي؟ كم من الوقت لزم بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة للوصول إلى حالتها الديمقراطية المعاصرة؟ ماذا أنجزت هذه الدول على طريق الوصول إلى الديمقراطية؟ كم تشريعا أنجزت، وكم دورة برلمانية تطلبت، كم تعديلا دستوريا استدعت، كم مؤسسة دستورية استحدثت، وكم مرة انتكست التجربة وصححتها مؤسسات المجتمع المدني والقوى المدنية المؤمنة بمسؤولية المشاركة؟ وما هي خريطة الأحزاب والطيف السياسي الحالي لهذه الدول، وكيف طورت الأحزاب تاريخياً برامجها فأصبحت عملية التمثيل السياسي تتم من خلال الأحزاب والبرامج؟
في الكثير من الأحيان وفي غمرة الحماس للديمقراطية، وأنا من أشد مناصريها، ننسى التفاصيل الضرورية لبناء تحول ديمقراطي ناجح ومستدام.
القضية محكومة بإنجازات ديمقراطية، وتشريعية، ومؤسسية، وسياسية، واقتصادية واجتماعية محددة، متى ما أنجزها المجتمع أصبحت الديمقراطية واقعاً وأسلوب حياة، وأصبحت الحكومة البرلمانية أو المُمَثِّلة مسألة أوتوماتيكية وتفاصيلها مرتبطة بشكل النظام السياسي.
الكلمة الحاسمة في الوصول إلى الإصلاح والديمقراطية هي للشعب ككل وأنا واحد منهم، فالإصلاح يبدأ مع كل فرد منّا.
لا أريد الإطالة هنا في الخوض في نظريات التحول الديمقراطي والاجتماعي، ما أريد تأكيده هو إننا في الأردن نعمل بكل طاقاتنا من أجل توفير عناصر التحول الديمقراطي من مؤسسات دستورية ضامنة للعملية السياسية وللتعددية، وتشريعات تقدمية وعادلة، وضوابط للفصل والتوازن بين السلطات، ومجتمع مدني حي وفاعل، وأحزاب برامجية حقيقية تصل إلى البرلمان وتشكل الحكومات على أساس الأغلبية والمعارضة البناءة.
هذه العناصر في مجموعها تحقق التحول الديمقراطي، وهي بحاجة لأن يؤمن بها غالبية المجتمع، وأن نشرع في ترجمتها على أرض الواقع من خلال وعينا كمواطنين بأهمية المشاركة السياسية، وتغيير أنماط الانتخاب والتمثيل لتصبح على أساس حزبي برامجي.
وبالنسبة لقناعاتي ودوري، فأنا لا أرى بديلا عن الديمقراطية، بأشكالها وتطبيقاتها المختلفة، نهجاً للحكم وآلية لتوسيع دائرة صنع القرار. وموعد إنجاز الإصلاح مرتبط بإنجاز محطات ومتطلبات الديمقراطية التي ذكرتها، وكنت قد عاهدت نفسي منذ أن تسلمت سلطاتي الدستورية أن أساهم بكل ما أوتيت من أجل جعل الأردن أكثر ديمقراطية. إنها مسؤولية ورثتها عن أبي الحسين، رحمه الله، وسأورثها لابني الحسين وهي الاستجابة لتطلعات الشعب وقيادة التحول والـتأقلم مع المستجدات.
الشرق الأوسط: جلالة الملك، العالم كله يعاني من أزمات اقتصادية انعكست على تدفق الاستثمارات الأجنبية، كيف يتعامل الأردن مع تحديات توليد فرص العمل، واجتذاب الاستثمار الأجنبي؟
جلالة الملك: دون شك، على الدول المسؤولة والملتزمة بدورها الاجتماعي أن تبذل المزيد في الأوقات الصعبة من أجل حماية الفئات الضعيفة في المجتمع، وضمان الدرجة الضرورية من النمو، والبناء على الفرص المتاحة، والتأقلم مع الظروف الجديدة، من أجل استعادة الازدهار بالسرعة الممكنة، فمع التحديات تبرز دائماً الفرص. ونحن في الأردن نبذل كل الجهود الممكنة من أجل حماية الاقتصاد الوطني وتحفيزه، وتمكين الفئات الاجتماعية الأكثر تعرضاً للانعكاسات الاقتصادية الناتجة عن أزمات اقتصادية وسياسية إقليمية وعالمية خارجة عن إرادتنا.
والنهج الاقتصادي والاجتماعي في الأردن يحرص دائماً على الاستثمار في المواطن، وهذا ما يعزز تنافسيتنا. وهذا ما يحاول الأردن جاهداً أن يستمر في فعله، للبناء على المؤشرات الإيجابية التي تميّز القوى العاملة المؤهلة الأردنية. وبالرغم من الأزمة الاقتصادية التي نشهدها في الأردن، إلا أننا تمكنا، بحمد الله وبوعي المواطنين ومن خلال عدد من الإجراءات، أن نبقى على المسار الصحيح، بحيث نشهد اليوم نموا في الاقتصاد الوطني رغم كل الصعوبات.
أما فيما يتعلق بموضوع توليد فرص العمل، فإننا نؤمن بأن الاستمرار في نهج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ودعم ريادة الأعمال هي السبل الأمثل لتوفير فرص عمل مستدامة للأردنيين. كما وجهنا الحكومة بضرورة التركيز على موضوع تنمية المحافظات، وأحد أدوات ذلك هو صندوق تنمية المحافظات، والذي جاء بهدف توفير التمويل اللازم لإقامة مشاريع تشغيلية وإنتاجية في محافظات المملكة، حيث الشباب والقوى العاملة، لتحسين مستوى معيشة المواطنين وتحقيق تحسن مباشر وملموس في نوعية الحياة. وستستفيد الحكومة من دعم مجلس التعاون لدول الخليج العربية في تمويل عدد من المشاريع التنموية في المحافظات، وذلك حرصا من أشقائنا في الخليج على مساندة الأردن في مساعيه التنموية، وهو الأمر المقدر من جانبنا دوما.
أما فيما يرتبط بجذب الاستثمارات الأجنبية، فعلى الرغم من الظروف الإقليمية في الوطن العربي، إلا أن الأردن وبحمد الله مازال يتمتع بثقة المستثمرين من مختلف الدول. فقد عملت المملكة خلال العقد الماضي على اتخاذ العديد من الإجراءات والتشريعات التي من شأنها تشجيع وتسهيل الاستثمار في المملكة. ومثال ذلك، العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول تمثل أهم الأسواق في العالم، ما جعل الأردن بوابة للوصول إلى هذه الأسواق. كما قمنا بإنشاء عدد من المناطق التنموية في مختلف المحافظات، وبما يتناسب مع المزايا التنافسية لكل منطقة، بحيث تمثل مراكز جذب للمستثمرين. وحالياً، تعمل الحكومة والسلطة التشريعية على تطوير قانون تشجيع الاستثمار، وإعداد قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص لزيادة تنافسيتنا.
الشرق الأوسط: جلالة الملك، في جولاته الأخيرة في المنطقة، أعطى وزير الخارجية الأميركي جون كيري، انطباعا بأن هناك أملا في مشروع سلام فلسطيني ـ إسرائيلي. هل ترون أن ذلك ممكن في ظل الاضطرابات التي تشهدها المنطقة سياسيا والانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، وكيف يمكن أن يساعد الأردن في تحقيق السلام؟
جلالة الملك: إن الأردن معني بشكل أساسي، ومن منطلق مصلحة الوطن العليا، وأمنه القومي في تحقيق السلام في المنطقة، وليس كوسيط أو عامل مساعد. إن ما تمر به المنطقة من اضطرابات هو حافز رئيسي للإسراع في تحقيق السلام، فانسداد أفق السلام سيفجر العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين على شاكلة تحاكي احتجاجات الربيع العربي، سواء في إطار انتفاضة جديدة، أو دوامة عنف وعنف مضاد من خلال فقدان الأمل بحل الدولتين وبروز واقع دولة واحدة يُضطهد فيها الفلسطينيون، ما سيشعل ثورة شعبية تعبّر عن الظلم التاريخي الذي لحق بهم. وبالتالي، هناك ضرورة حقيقية لحل النزاع على أساس رؤية الدولتين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، كاملة السيادة على أراضيها، قابلة للحياة على التراب الوطني الفلسطيني، استنادا إلى خطوط ما قبل حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
أعتقد أن وزير الخارجية جون كيري يعمل بشكل مكثف وأسلوب واقعي يبتعد عن الأضواء والضجيج الإعلامي ويركز على تقريب وجهات النظر، واقتراح حلول عملية للملفات الصعبة، خاصة أن إعادة إطلاق مفاوضات مباشرة يعني الخوض في قضايا الحل النهائي مثل القدس، واللاجئين، والحدود، والأمن وغيرها، وهذه قضايا معقدة، بحاجة لحلول تاريخية وعملية تكفل قيام سلام عادل وشامل ومستدام للأجيال القادمة. ونحن نتطلع إلى دراسة ما يحمله وزير الخارجية الأمريكي في زيارته الحالية للمنطقة.
بالنسبة لنا في الأردن، فإننا نساهم بشكل فاعل في توفير أجواء إيجابية تساعد الفلسطينيين والإسرائيليين على العودة إلى المفاوضات المباشرة، والتقاط فرص السلام والبناء عليها قبل أن تتلاشى فرص حل الدولتين، بسبب تغيّر الواقع على الأرض، خاصة الاستيطان الذي يجمع العالم على أنه غير قانوني، والذي يبتلع أرض الدولة الفلسطينية المستقبلية، وهو العقبة الرئيسة في وجه السلام، ورؤية الدولتين.
كما توفر مبادرة السلام العربية فرصة تاريخية على إسرائيل التقاطها قبل فوات الأوان لتحقيق السلام مع العالمين العربي والإسلامي. فما هو على الطاولة اليوم، قد يصبح فرصة ضائعة مستقبلا.
الشرق الأوسط: ولكن، جلالة الملك، ألا ترى أن هذا الدور الإيجابي الذي يحاول أن يقوم به الأردن تعارضه إسرائيل، من خلال تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي السلبية الأخيرة حول الاتفاقية الأردنية الفلسطينية، والتي ترسخ دوركم التاريخي في حماية المقدسات في القدس الشريف؟
جلالة الملك: لهذه الاتفاقية سياق تاريخي وقانوني، والهدف منها تحديث الإطار القانوني للرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشرقية، بما يتواءم مع الوضع القانوني الجديد للدولة الفلسطينية. الاتفاقية بالنسبة لي هي عنوان لمسؤولية دينية وأخلاقية وتاريخية أقوم بها كهاشمي، ورثتها عن جدي الشريف الحسين بن علي الذي قام بالإعمار الهاشمي الأول للحرم القدسي الشريف. كما أن تحقيق هذه المسؤولية لا يكون في الدخول في معارك إعلامية غير منتجة، وإنما بالعمل الحقيقي من أجل دعم صمود إخواننا المقدسيين على جميع الأصعدة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والخدمية، والتعليمية. وأيضاً في توفير الحماية الدولية للقدس الشرقية بما تمثل من إرث حضاري وإنساني. وعدم السماح بالمساس بهويتها التاريخية وحرية العبادة من خلال فرض واقع جديد على الأرض يسعى إلى طمس الهوية العربية الإسلامية والمسيحية للقدس الشرقية. والجزء الأهم في هذه المعادلة هو دعم الأشقاء الفلسطينيين في نضالهم نحو دولة فلسطينية مستقلة، والعمل في المحافل الدولية لتوجيه الضغط الدولي على إسرائيل ووضعها أمام مسؤولياتها كدولة محتلّة. هذه هي مسؤولياتنا التاريخية، ولن يمنعنا أحد من القيام بها.
الشرق الأوسط: جلالة الملك. كيف تقيّمون علاقتكم بالسعودية ودول الخليج؟ وإلى أي مدى وصل مشروع انضمام الأردن لمجلس التعاون الخليجي؟
جلالة الملك: أود أن أعبر عن اعتزازي بالعلاقات الأخوية التي تجمعني مع قادة دول الخليج العربية، وعلاقة الأردن بالأشقاء في هذه الدول تاريخية، لا سيما مع المملكة العربية السعودية الشقيقة. وقد ارتقت آليات التنسيق وتقريب المواقف إلى مستويات متقدمة بفضل عمق علاقات الأخوة التي تربطني مع أخي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، الذي ستبقى جهوده رائدة في تعزيز التضامن والعمل العربي المشترك.
هناك ثوابت لهذه العلاقة، أهمها إيماننا المطلق بأن أمن دول الخليج العربية والأردن صنوان ومتلازمان، وهذا ما يجعلنا على قناعة ثابتة بأن أمن أشقائنا في الخليج هو من أمننا القومي. وقد أثبتت الأحداث والتوترات الإقليمية الأخيرة أهمية التنسيق والتشاور، وأظهرت أيضاً الارتباط التاريخي بين الأردن ودول الخليج العربية، نظرا للامتداد الجغرافي والعمق الاستراتيجي بين الطرفين، وهذا يتطلب استمرار انسجام المواقف من القضايا الإقليمية والعربية لضمان حماية مصالحنا المشتركة.
أما فيما يتعلق بموضوع الانضمام إلى مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فهو محاولة لتأطير هذه العلاقة التاريخية في منظومة إقليمية مستقرة ومتجانسة، وما نحرص عليه هو العمل باستمرار لتعميق علاقتنا مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية وغيرها، وعلى أسس متينة من التكاملية، بحيث يحظى الأردن بوضع متقدم في علاقات الشراكة مع مختلف دول الخليج العربية.
الشرق الأوسط: أخيرا، كيف يرى جلالة الملك مستقبل المنطقة العربية؟
جلالة الملك: الطموح هو أن نصل إلى حالة متقدمة في المنطقة العربية يسود فيها الازدهار الاقتصادي، والديمقراطية، وأن يكون هناك احترام حقيقي للإنسان العربي وكرامته. لقد مثلت هذه الآمال صلب مطالب ربيع الشعوب العربية.
يجب أن لا نفقد الأمل بالرغم من كل التحديات والصعاب. يجب أن يستمر العمل الجاد من أجل الإصلاح، واستعادة الاستقرار، وإعادة إطلاق النمو. جميع الدول والمجتمعات التي تعرضت إلى ظروف تاريخية مشابهة ردّت على التحديات بمضاعفة العمل والتحلي بالأمل بمستقبل أفضل. وهذا ما نؤمن به في الأردن، الذي يتبنى نموذجا متدرجا تعدديا مدروسا في الإصلاح، بعيدا عن الفوضى والقفز نحو المجهول.