مسؤولية صنع السلام
ولكن للسلام تكلفة أيضا، وخاصة عندما تبين لنا أجيال من النزاع أن السبيل الوحيد للسلام هو الاعتراف بالمعاناة المشروعة وانهاؤها. وفي الوقت نفسه، لا بد من تحطيم نماذج الخوف، والاستياء، وعدم الثقة، واللامبالاة بمعاناة الآخرين. ولا بد للأطراف التي جعلت نفسها لمدة طويلة في مواجهة بعضها بعضا أن تقوم بإيجاد سيكولوجية جديدة. وعلى المجتمعات والأفراد، معا، أن يقوموا بإعادة تشكيل ذواتهم من أجل مستقبل يجزي ويكافئ الإنتاجية والتعاون، لا المواجهة والتنافر.
يصعب كسر شوكة سيكولوجية النزاع. ولكن التاريخ، بما في ذلك تاريخ أوروبا، يظهر أنه حتى ألد الأعداء يمكنهم القيام بتلك النقلة، عندما يفي السلام بوعده وعندما يحول مسار الطاقات الإنسانية والموارد المادية التي كانت تستنزفها العداوات نحو بناء البنى التحتية الوطنية، وتعزيز التعليم، والصحة، والخدمات الاجتماعية الأخرى، وتشجيع الحكم الرشيد، وعندما يعمل الاستقرار على جذب الاستثمار في الداخل، والمشاركة في الأسواق العالمية، مما يؤدي إلى زيادة الفرص الاقتصادية والنمو. إن وجود مجتمعات كاملة ذات مصالح واهتمامات بالواقع الجديد يسهم في تعزيز السلام.
ولهذا السبب كان والدي، المغفور له الملك الحسين، كثيرا ما يقول إن السلام هدية نقدمها لأجيال المستقبل. وقد كانت هذه هي رؤية الأردن للمنطقة عندما اتخذ بلدنا ذلك القرار الصعب بعقد معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1994، وقاد الأردن، تاريخيا، المنطقة في الإصلاح والتنمية، ولكن الاستقرار والأمن حديثي العهد شكلا عاملين ساعدا في وضع استراتيجيتنا طويلة المدى للتنمية، والشراكات العالمية، والإصلاح. ونحن نسعى إلى تحقيق، ونحقق فعلا، النمو الاقتصادي، من خلال توفير فرص جديدة للشباب، والحكم الرشيد، والمجتمع المدني المستند إلى القيم الإسلامية في التسامح، والتعاطف والتكافل، والمساواة. ففي كل مكان في منطقتنا، يريد الناس - من العرب والإسرائيليين- ويستحقون، حقبة من الازدهار الإقليمي، وشراكات توفر الوظائف، وتعليما أفضل، وبيئة نظيفة، واستقرارا. ومع ذلك، فليس هناك بلد في الشرق الأوسط يستطيع أن يطلق أقصى ما لديه من إمكانات وطاقات في الوقت الذي ينوء فيه كاهل المنطقة بالنزاع.
لقد حان الوقت للقادة الإسرائيليين والفلسطينيين ليقروا بضخامة المسؤولية التي يحملونها، ليس من أجل الأمن والاستقرار والازدهار المستقبلي لشعوبهم فحسب، بل لرفاه منطقتنا بأكملها أيضا. وعلى القادة المنتخبين لدى الجانبين أن يقروا ويعلنوا أن ليس هناك حل أحادي للنزاع بين شعبيهم يضمن السلام الدائم والأمن، اللذين يحتاجهما الجانبان ويستحقانهما بصورة عادلة. والحل الذي يتم التوصل إليه من خلال التفاوض ويركز على وجود دولتين، مؤديا إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، مستقلة، متجاورة، تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل آمنة، هو الحل الوحيد لهذا النزاع.
ولهذا، على الجانبين أن يعملا بصورة حاسمة لإيجاد الظروف اللازمة للعودة إلى المفاوضات، التي هجرت قبل ما يزيد عن خمس سنوات. وبالنسبة لإسرائيل، فإن هذا يعني الاعتراف بشركائها العديدين للسلام، الشعب الفلسطيني الذي يقوده الرئيس محمود عباس، والأمة العربية بأجمعها التي سعت عام 2002 لتحقيق السلام الشامل مع إسرائيل وفقا للشرعية الدولية. وبدون هذا، لن يتحقق القبول على مستوى المنطقة لإسرائيل، ولا السلام الحقيقي. وكذلك، فعلى القيادة الفلسطينية أن تقر بأن المفاوضات وحدها على أساس خريطة الطريق يمكن أن ترفع المعاناة عن كاهل الشعب الفلسطيني، وتعيد لهم حقوقهم القانونية المعترف بها قانونيا، وعلى القيادة الفلسطينية أن تتصرف وفق هذا الإقرار. كما يجب على المجتمع الدولي أن يعمل على تجنب حدوث أزمة إنسانية. فالسماح بإفقار الملايين لن يفاقم المعاناة الإنسانية فحسب، بل إنه سيزيد من حدة الأزمة الأمنية للفلسطينيين والإسرائيليين أيضا، ويجعل العودة إلى المفاوضات أمرا أكثر صعوبة.
كنت منتسبا إلى القوات الأردنية المسلحة عندما وقع الأردن وإسرائيل اتفاقية السلام التاريخية. وبوصفي جنديا، كنت فخورا بأن القيادة الأردنية حققت سلاما مشرفا أنهى حوالي خمسين عاما من حالة الحرب بين بلدينا. وأهم من ذلك كله، فقد تفهمت، باعتباري أبا رزق بابنه حديثا، كلمات والدي ورؤيته بوضوح أشد. وشعرت، كما شعر الملايين من الآباء والأمهات الأردنيين الآخرين، أن هذه الخطوة كانت خطوة أولى نحو المستقبل الذي استشرفناه لأطفالنا. واليوم، فإنني أيضا أتفهم، كقائد، أن "أجيال المستقبل" التي تحدث عنها والدي مرارا، قد غدت واقعا يعيش بيننا، وهي تشكل خمسين بالمئة من السكان في منطقتنا. ولا يليق بنا أن نخبرهم أن السلام هدية نستطيع تقديمها لأجيال المستقبل. إنه وعد لا بد أن نفي به لهم اليوم، أو أن نخاطر بأن نلقي بهم في أتون مستقبل من العنف، والخوف، والعزلة.
لقد حان الوقت للدول ولقادة الرأي في العالم أن يقفوا معا خلف الالتزام بالسلام، مثل ما تقوم به مجموعة من الحائزين على جائزة نوبل وقادة آخرون هذا الأسبوع في مؤتمر البتراء الثاني. إن اتفاقيات السلام الحقيقية لا تكتب على الورق فحسب، ولكنها تحفر في القلوب أيضا. وكي يحدث هذا علينا أن نساعد الناس في الجانبين ليؤمنوا بخيار السلام: وهو أن تحقيق سلام صعب تقل تكلفته كثيرا عن الاستمرار في نزاع مدمر، وأن المستقبل يمكن أن يكون حقا أفضل من الماضي.