كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في القمة الاستثنائية لمنظمة العمل الإسلامي حول فلسطين والقدس الشريف

كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في القمة الاستثنائية لمنظمة العمل الإسلامي حول فلسطين والقدس الشريف

اندونيسياجاكارتا
07 آذار/مارس 2016
(ألقى الخطاب الأمير الحسن بن طلال نيابة عن جلالة الملك)

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على نبيه الأمين،
وعلى آله وصحبه  ومن والاه أجمعين،

فخامة الأخ جوكو ويدودو، رئيس الجمهورية الإندونيسية؛
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، قادة العالم الإسلامي،
معالي الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي،
السيدات والسادة،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

أبدَأُ بقوْلِه تعالى في مُحْكَمِ التّنزيل: "وَقُلْ رَبِّي أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِير". (صدق الله العظيم) [سورة الإسراء (17) الآية 80].

إنه ليسعدني أن أنقل إلى فخامة الرئيس جوكو ويدودو، ولجميع إخوانه المسؤولين، ولشعبكم العزيز تحيات جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الصافية ومحبته الخالصة وتمنياته لهذه القمة بالتوفيق والنجاح.

لقد استدعت المخاطر، التي تهدد القدس الشريف، عقد هذا الاجتماع الطارئ، على مستوى القمة لمنظمة التعاون الإسلامي في جاكرتا اليوم، حيث أن الانتهاكات والاعتداءات التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلي في القدس المحتلة قد تصاعدت وتيرتها في الفترة الأخيرة بشكل ممنهج وخطير، يسعى من خلاله الاحتلال الإسرائيلي، بشتى الوسائل والأساليب، إلى فرض أوضاع جديدة فيها، تؤدي إلى تغيير هويتها وديموغرافيتها العربية وطابعها العربي والإسلامي، ووضعها القانوني، كمدينة واقعة تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، والمساس بمقدساتها الإسلامية والمسيحية، خاصة المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف)، وبشكل يهدد جديا هذه المقدسات وسلامتها.

إن هذه الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المدانة دوليا، تشكل خروجا صارخا على القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، وانتهاكا سافرا ومستمرا للشرعية الدولية، التي عبرت عن نفسها بشكل متكرر ومنتظم، منذ وقوع القدس الشرقية والضفة الغربية تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي عام 1967، من خلال المئات من القرارات الصادرة عن أجهزة منظمة الأمم المتحدة المختلفة، بما فيها مجلس الأمن، والتي اعتبرت كل الإجراءات والانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية في القدس الشرقية المحتلة، بما فيها المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف)، باطلة بطلانا مطلقا، ومعدومة الأثر قانونيا وسياسيا، كونها صادرة عن "قوة احتلال" لا يجيز لها القانون الدولي ولا الشرعية الدولية، القيام بهذه الإجراءات واقتراف هذه الانتهاكات بأي شكل كان.

سيادة الرئيس،
الحضور الكرام،

إن القدس وأهلها يستحقون منا كل دعم واحتضان، وهم يناضلون، مع جموع الشعب الفلسطيني، من أجل الحفاظ على عروبة القدس والسعي من أجل الوصول إلى حل مشرف نهائي لقضيتهم العادلة. لقد كان – ولا يزال - فهمنا لقضية فلسطين على أنها قضية كل قطر عربي، وكل قطر مسلم، بل قضية الضمير الإنساني. كما تجمع بين الأردن وفلسطين علاقة عميقة الجذور ذات مضامين تاريخية وجغرافية وإنسانية.

وانطلاقـا من شرف وواجب الرعاية والوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس الشريف، قمنـا في الأردن، وسنواصل، التصدي بثبات لهذه الانتهاكات الإسرائيلية. وقد نجحنا في وقف وإبطال بعضها، وسنمضي قدما في نهجنا هذا وفي مباشرة هذه الأمانة والمسؤولية بتفان وعزم لا يلين، حتى تتحرر القدس الشرقية المحتلة ومقدساتها من الاحتلال الإسرائيلي.

إن القانون الدولي الإنساني يثبت حق الأردن القانوني في إدارة الفضاء الديني في المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف). ولهذا الفضاء الديني الرحب أبعاد تاريخية وإنسانية وتنظيمية ومؤسسية وعمرانية حضارية متجذرة تضم المسجد الأقصى المبارك وتتجاوزه إلى محيطه في الحرم القدسي الشريف.

لقد كانت القدس مدينة علم وثقافة. نشأت فيها المدارس الفكرية والفقهية والصوفية. وكان شرف العالم أن ينتسب إلى القدس ويسمى "المقدسي". فكانت المدارس والزوايا والخانقوات، إضافة إلى المكتبات العامة والخاصة العامرة بذخائر المخطوطات.

لقد آن الأوان أن يسمو الدين فوق السياسة وصراع الإنسان مع أخيه الإنسان، وأذكر هنا بأن الاحترام المتبادل هو حق أساسي للإنسان.

عندما نتحدث عن المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف) فإننا نقصد ونعني كامل المساحة البالغة 144 ألف متر مربع، المشتملة على المسجد الأقصى المسقوف، وقبة الصخرة المشرفة، والمصلى المرواني، وكل الساحات والمنشآت الأثرية الدينية والتاريخية داخل هذه المساحة.

كذلك، فإننا بحاجة إلى تأكيد المكانة الروحية للقدس واستثمار الثقافة الإسلامية بشكل يعزز حماية الأوقاف في القدس والدفاع عنها. إن القدس بأوقافها أسلوب وثقافة. ولطالما نهض الوقف الإسلامي التابع لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية بدور عظيم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويجب أن نستثمر هذا الوقف اليوم للحفاظ على المسجد الأقصى المبارك، وأن نساند العاملين فيه وندعم صمود أهل القدس من خلال إنشاء وقفيات متعددة في دول العالم الإسلامي كافة، يعود ريعها لدعم المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف) والمشاريع التعليمية والصحية والاجتماعية في القدس.

ولعل إقامة "المؤسسة العالمية للزكاة والتكافل" سيعزز دعم أهلنا الصامدين في القدس ويمكننا من تبني مشاريع اقتصادية واجتماعية لمواجهة مخططات الاحتلال التي تهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية للقدس وإفراغها من سكانها العرب؛ المسلمين والمسيحيين.

لقد نجحنا، خلال عضويتنا في مجلس الأمن، في جعل المجلس يتبنى بيانا قبل بضعة أشهر، يستخدم بوضوح تسمية "الحرم الشريف"، بعد أن غاب هذا المسمى لسنوات طويلة عن المجلس. وأعرب البيان حينها عن القلق البالغ لأعضاء مجلس الأمن إزاء تصاعد التوتر في القدس، خاصة في محيط الحرم القدسي الشريف. كما طالب البيان باحترام الوضع التاريخي القائم في الحرم القدسي الشريف وعدم المساس به إطلاقا قولا وفعلا، وأشار بوضوح إلى الوضع القانوني لمدينة القدس، كمدينة واقعة تحت الاحتلال، عندما دعا إلى الاحترام الكامل للقانون الدولي بما فيه القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني الذي ينطبق على القدس، وإلى احترام كامل لقدسية المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف).

وفي منظمة اليونسكو، قام الأردن عبر السنوات الماضية، بدور محوري في تحقيق مكاسب كبيرة لقضية القدس الشريف ومقدساتها وحمايتها، بالتعاون والتنسيق المثمر مع الأشقاء الفلسطينيين ووفود دول منظمة التعاون الإسلامي.

ومن منطلق شرف النهوض بواجب ومسؤولية الوصاية على المقدسات في القدس الشريف، في إطار الرعاية والوصاية الهاشمية التاريخية لها، فإنني أؤكد وبكل الوضوح أن المساس بالقدس الشريف ومقدساتها لم ولن يكون مقبولا ولن نسكت عنه أو نسمح به، وبأن الاعتداءات والانتهاكات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في القدس الشريف وعلى مقدساتها، سنواجهها في المملكة الأردنية الهاشمية- كدأبنا دوما - بكل حزم، وبجميع الوسائل الدبلوماسية والقانونية المتاحة، ولم ولن ندخر أي جهد في التصدي لها، لمنعها ووقفها بشكل نهائي. وسنستمر- من خلال الأوقاف الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية - بالعمل الدؤوب على حماية المقدسات في القدس الشريف، وصيانتها ورعايتها ورصد كل الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية المرفوضة عليها والتصدي لها.

ولا بد لي من التشديد على أن ما ننهض به من دور كبير ومحوري إزاء القدس الشريف ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، في سياق الرعاية الهاشمية التاريخية للمقدسات فيها، يتعين أن يتم إسناده وتعزيزه ودعمه عربيا وإسلاميا بالقول والعمل وبكل الوسائل المتاحة.  فلا يمكن مواجهة الانتهاكات والاعتداءات والمخططات الاحتلالية الإسرائيلية في القدس الشريف والمستهدفة لمقدساتها، خاصة المسجد الأقصى المبارك، بفاعلية وشمولية، إلا من خلال جهد إسلامي جماعي منسق وشامل ومتناغم وداعم يستخدم بشكل فاعل الوسائل المتاحة لردع الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات. ولا بد من دعم هذه الوسائل ومنها وأهمها: الرعاية والوصاية الهاشمية التاريخية عليها. كذلك، لا بد من تعزيز دور وعمل الأوقاف الإسلامية في القدس التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية فيها، ومساندة عمل لجنة القدس التابعة لمنظمتنا هذه، التي يرأسها أخي جلالة الملك محمد السادس، ملك المملكة المغربية الشقيقة، وتنسيق وتركيز جهودنا لحمل المجتمع الدولي بأسره على وضع حد لهذا الخرق الإسرائيلي المستمر للقانون الدولي والشرعية الدولية.

وفي هذا الصدد، لا بد من استنهاض همة وخبرة وإسهامات علماء الأمة وشخصياتها الاعتبارية والفكرية وتجاربهم الغنية بتنوعها وشموليتها.

إن المسؤولية التي تحملها القيادة الهاشمية في رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف بالتعاون مع لجنة القدس، التي تستند شرعيتها إلى المؤتمر التأسيسي الأول لمنظمتنا عام 1969، تقود الجهود الفاعلة المؤثرة لحماية المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف) والمدينة المقدسة. وما آلت إليه الأوضاع في مدينة القدس يدعوني إلى مطالبة الدول الإسلامية والمجتمع الدولي بضرورة الالتزام بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي وصف الوضع القانوني للحرم الشريف واعتبره أرضا محتلة. وهذا يستدعي ليس فقط الموافقة على ما أشارت به المحكمة الدولية بل تطبيقه باعتباره عنوانا للحقيقة والصواب.

يجب أن تبقى القدس حاضرة في المشهد السياسي للدول الإسلامية، وفي الخطاب الإعلامي الإسلامي، لتذكير العالم بمأساة القدس، وبما تقوم به سلطة الاحتلال من اعتداءات تنتهك القانون الدولي والإنساني، ولإبقاء القدس حاضرة في وجدان أبناء الأمة.

الحضور الكرام،

تبقى القضية الفلسطينية قضيتنـا المركزيـة الأهم، والمسبب الرئيس لجل الأزمات، التي تعصف بالشرق الأوسط، بما فيها بشكل خاص التمدد الخطير للإرهاب والتطرف، الذي أصبحت جماعاته تحتل مساحات واسعة من أراضي دول شقيقة، وتهدد شعوبها والدول المجاورة لها والعالم أجمع. ويقترف خوارج هذا العصر جرائمهم النكراء باسم تفسيرات منحرفة للإسلام، تشوه ديننا العظيم، الذي قدم للإنسانية جمعاء أسمى منظومة من المبادئ الإنسانية والحضارية والقيم الرفيعة، ويستخدمون غياب حل القضية الفلسطينية كوسيلة لتجنيد الأتباع، لخدمة أهدافهم اللاإنسانية، التي لا صلة لعدالة القضية الفلسطينية بها.

إن حل القضية الفلسطينية من خلال تجسيد حل الدولتين، الذي تقوم بمقتضاه دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة على التراب الوطني الفلسطيني، وعلى خطوط الرابع من حزيران لعام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، من شأنه أن يساعدنا في إضعاف هذه الجماعات وسلبها القدرة على استقطاب الأتباع، ويساندنا في هزيمة الإرهاب وإضعاف نزعات التطرف، من خلال الآفاق التي من شأن السلام العادل والدائم أن يفتحها أمام شعوبنا، خاصة الشباب الذين يشكلون الغالبية في دولنا، للتعاون والإبداع والعمل والأمل.

وعلى هذا الأساس، وغيره من الاعتبارات الحيوية بالنسبة لنا في الأردن، فإن تحقيق حل الدولتين يمثل مصلحة وطنية عليا، مثلما يمثل مصلحة فلسطينية ومصلحة دولية، وسنستمر في دعم الأشقاء حتى ينالوا حقوقهم الوطنية المشروعة، وعلى رأسها حقهم في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة، ومعالجة جميع القضايا الجوهرية. وقد أكدت اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية أن قضايا القدس واللاجئين والأمن والحدود والمياه هي قضايا جوهرية يتم نقاشها في نطاق الحل الشامل. كما يكون التعاطي معها وفقا للمرجعيات الدولية المعتمدة ومبادرة السلام العربية بعناصرها كافة، وهي المبادرة التي تبنتها منظمة التعاون الإسلامي أيضا، وبما يتسق مع المصالح الحيوية العليا للأردن، والمرتبطة بهذه القضايا الجوهرية كلها، ويلبيها ويحققها بشكل كامل.

وندعم في هذا الصدد المبادرات الدبلوماسية الرامية إلى تجسيد حل الدولتين من خلال ما يلي:

  • مفاوضات جادة وملتزمة ومحددة بإطار زمني.
  • الامتناع خلال هذه المفاوضات عن كل ما من شأنه أن يهدد استمرارها أو يؤدي إلى استباق نتائجها.
  • أن يكون هناك مواكبة دولية لهذه العملية لمساعدة الطرفين على إنجاز الاتفاق النهائي المستند إلى مرجعيات عملية السلام والشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.

يقول الله تعالى: "لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ". (صدق الله العظيم) [سورة النساء (4) الآية 114].

ولا يفوتني، في ختام هذه الكلمة، إلا أن أعبر عن عميق الشكر والتقدير لإندونيسيا على استضافة هذه القمة، وعلى حسن الضيافة ودقة التنظيم؛ متمنيا لاجتماعنا هذا التوفيق والنجاح.

أحييكم، وأسلم عليكم.